بصمات

"إنسانية مُسلّحة": ماذا يعني السّلم الذي يُعمّم إمكانية الحرب؟

تبنّت الأمم المتحدة مع بداية الألفية الثانية (2005) مفهوم "مسؤولية الحماية"، والذي بموجبه يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولية التدخل، بما في ذلك التدخل بالقوة العسكرية، لحماية المدنيين من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية في العالم. سنوات بعد ذلك أظهرت تجارب عملية في الميدان صعوبة تنزيل المفهوم كقانون دولي بالنظر إلى التعقيدات الاقتصادية والتحديات السياسية والدبلوماسية والقانونية المعقدة بين دول العالم، الأمر الذي دفع بعدد من الباحثين من قبيل أورليش بيك ونعوم تشومسكي إلى إثارة الموضوع، ونقد المفارقات الصارخة التي ينطوي عليها.

لتملك القدرة على وصف ونقد الواقع الذي ينطوي عليه تنزيل المفهوم، قام أورليش بيك بنحت مفهوم "إنسانية مُسلّحة" في مقالة نشرها في صحيفة "سدويتشه تسايتونغ"، وهي إحدى أكبر الصحف اليومية في ألمانيا، مُعلّقًا فيها على الحرب في كوسوفو، بالإشارة إلى "المخاطرة عبر ظهور معاينة عسكرية عالمية"، كما أصدر نعوم تشومسكي بالعنوان نفسه، "إنسانية مسلحة"، نقدًا قاسيًا للأيديولوجيا التي تعتمدها منظمة حلف شمالي الأطلسي وللمجموعة الصناعية - العسكرية الأمريكية أثناء حرب كوسوفو، ومع ذلك، أقرّ أورليش بيك أنّ تشومسكي برغم هذا النقد ظل وفيًا لمنطق القومية المنهجية العسكرية، الأمر الذي منعه من الاعتراف بالخطر الفعلي الذي يبدو عليه مفهوم "إنسانية مسلحة".

كيف تتحدث القوى العالمية عن السّلم وتسمح في الوقت ذاته بالحرب والإبادة؟

لقد كان استخدام أولريش بيك لهذا المفهوم بشكل مكثّف، مدفوعًا بالحاجة لوصف العنف المبرّر بحماية الإنسانية، مُسلّطًا الضوء على التناقض الحاصل بين الادعاء بحماية حقوق الإنسان واستخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك، بمعنى آخر الخوف من أن تتحول الدعوة للعدالة والانتصار لحقوق الإنسان (كما حدث في تدخلات حرب بلدان مثل كوسوفو وروندا والعراق وأفغانستان..) إلى سيف يُشهر بهدف اجتياح بلاد غريبة، مثيرًا مفارقة مؤرقة: كيف يمكن الدفاع عن المشروعية الكوسموبوليتية (مجتمع عالمي واحد) إذا كانت توصل إلى مواقف تتسم بالتأزيم وبالحروب؟ وكيف تتحدث القوى العالمية عن السّلم وتسمح في الوقت ذاته بالحرب والإبادة؟ وذلك في سياق:

- عدد من التدخلات العسكرية التي قامت بها القوى العالمية في شتى مناطق العالم تحت شعار الإنسانية، وحماية حقوق الإنسان والدفاع عن القيم الإنسانية، حتى لو كان ذلك ينطوي على استخدام العنف.

استُخدمت القوة العسكرية لأهداف سياسية أو اقتصادية تم تغليفها برداء الإنسانية

- ازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الإنسان، حيث استُخدمت القوة العسكرية في عدد من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لأهداف سياسية أو اقتصادية تم تغليفها برداء الإنسانية، في حين تمّ غض الطرف عن التدخل في ظروف كانت تستدعي ذلك، لغياب تلك الأهداف.

- تأثير القوة على الإنسانية، حيث أدى استخدام القوة العسكرية في بعض الحالات تحت مبرّر الإنسانية إلى نتائج عكسية، مُتسبّبًا في زيادة العنف ومعاناة المدنيين بدلًا من تحقيق السلام وحماية الحقوق.

إنّ مشروعية قانون "مسؤولية الحماية" منذ إطلاقه، "جعلت تحويله أداةً لغايات إمبريالية غاية في الإغراء، إذ جعلت من السّلم وحقوق الإنسان والعدالة العالمية أداةً لغايات السيطرة القومية" بتعبير أورليش بيك، الأمر الذي سمح في نظر الباحث نفسه للحديث عن كوسموبوليتية حقّة، في مقابل كوسموبوليتية باطلة، وإذا كان من الصعب التمييز بين الحالتين فإنّ هذه الأخيرة (الباطلة) يمكن التدليل عليها من خلال فكرة سادت في القرون الوسطى (الحرب العادلة)، تلك التي تختلط فيها المستلزمات الأخلاقية المتعالية كما قدّمها الفيلسوف كانط في مشروعه عن السّلم الدائم، مع طموحات القوى العالمية.

من جهة أخرى، وإذا كان من الصعب أن نُميّز بين كوسموبوليتية حقة وأخرى باطلة كمشروع وكواقع، فذلك يعود في جزء كبير منه لكون الوجود المفترض لنظام كوسموبوليتي (مجتمع عالمي واحد) شرطًا ضروريًا لتحقّقه، يبدو هذا التعاكس بين المشروع والواقع بمثابة استراتيجية فاعلة بشكل خاص لبلوغ ما لا يمكن بلوغه، أي إدخال وحدة الكثرة، والتأكيد على أنّ الهدف إذا ما تمّ بلوغه يصبح وسيلة لفرض هذا الهدف، وحتى يُصار إلى فرض العيش في ظل كوسموبوليتية حقّة أو عادلة يمكن حينها إقامتها ضد المتعارضات المتبقية كالأمم والمناطق والديانات في العالم والمعسكرات والظروف، يضيف أورليش بيك.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن