اقتصاد ومال

السد العالي مأثرة العهد الناصري ومحاولة سرقته للعهد الملكي

أذهلني احتفاء البعض على مواقع التواصل الاجتماعي بادعاء بعض الجهلة أنّ السد العالي بدأ في العهد الملكي. ولأنّ الحقائق ساطعة وقاطعة، فإنّ الغرض السياسي الرديء هو الذي يبرر للبعض الاحتفاء بالجهل وترويجه.

السد العالي مأثرة العهد الناصري ومحاولة سرقته للعهد الملكي

لقد تركت الحقبة الملكية لمصر بنية أساسية زراعية ممتازة بمعايير ذلك الزمن، وما زالت الترع والرياحات والقناطر والسدود التي نفذت في ذلك العهد تشكل رافعة رئيسية للري والزراعة في الأرض القديمة في وادي النيل ودلتاه حتى الآن. كما تركت لمصر اتفاقات بشأن ضمان حقوق مصر في مياه النيل، قبل أن تضيع في اتفاق عام 2015. لكن الأمر المؤكد هو أنّ ذلك العهد لا علاقة له من قريب أو بعيد بأعظم مشروعات البنية الأساسية في مصر والعالم في القرن العشرين وهو السد العالي، فهو مأثرة العهد الناصري حصرًا وبلا شريك.

كان "أدريان دانينوس" وهو تاجر مصري من أصول يونانية هو أول من فكر في إقامة سد عالي عند أسوان بشكل تأملي وليس علميًا في نهاية أربعينيات القرن الماضي. وبعد يوليو 1952، التقط عبد الناصر الفكرة، وطلب إجراء الدراسات الفنية والاقتصادية من خلال خبراء وزارة الأشغال العامة والموارد المائية المصرية، ومن خلال خبراء البنك الدولي.

نجح عبد الناصر في توظيف جماهيريته الأسطورية لتحويل قناعته بالمشروع إلى اختيار شعبي كاسح

كما تمت دعوة خمسة من أهم العلماء المتخصصين في تصميم وتنفيذ السدود لدراسة المشروع، وهم ثلاثة أمريكيين "كارل ترزاكي"، "سي. ستيل"، و "لورنز ستراوب"، وفرنسي واحد هو "أندريه كوين"، وألماني واحد هو "ماكس بروس".

أقرّت كل تلك الدراسات بالصلاحية الفنية لإقامة السد عند أسوان، وأقرّت أيضًا بالجدوى الاقتصادية الهائلة لإقامته. وحسمت حكومة الثورة أمرها باختيار مشروع السد العالي باعتباره أعلى قدرة في تخزين المياه داخل مصر وتحت حمايتها وليس في أي دولة أخرى وتحت رحمتها.

وقف زعيم مصر الراحل جمال عبد الناصر وراء المشروع بكل قوته ورصيده، وهو بالفعل الأب الشرعي والوحيد للمشروع خاصة بعد أن نجح في توظيف جماهيريته الأسطورية لتحويل قناعته بالمشروع إلى اختيار شعبي كاسح.

تكفل ناصر بإقناع السودان بالتوقيع على اتفاقية مياه النيل عام 1959 والتي سمحت لمصر بتنفيذ المشروع. وتم الاتفاق على أن تتحمل مصر وحدها كل تكاليف المشروع بما فيها تعويضات أهل النوبة السودانية الذين ستغمر مياه بحيرة السد (بحيرة ناصر) أراضيهم، على أن تحصل مصر على 7,5 مليار متر مكعب من الوفر المائي الذي سيحققه المشروع، ويحصل السودان على 14,5 مليار متر مكعب من ذلك الوفر، مع ضياع 10 مليارات متر مكعب من المياه بالبخر من بحيرة ناصر.

وقُدرت تكلفة بناء السد ومحطته الكهرومائية بنحو 210 مليون جنيه مصري، ترتفع إلى 400 مليون جنيه مصري بإضافة باقي تكاليف المشروع من ري وصرف واستصلاح وإسكان ومرافق وطرق، فضلًا عن تكاليف الفائدة والتعويضات عن الأراضي التي ستغمرها المياه في مصر والسودان. وهذه التكاليف الهائلة كان من الصعب على مصر تحملها وحدها، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى البحث عن مصادر خارجية للمساهمة في تمويل إنشاء سد مصر العالي.

توجهت مصر إلى دول الغرب والبنك الدولي في البداية، لكنهم بعد مماحكات طويلة رفضوا التمويل وبصورة مهينة لمصر، حيث صرح وزير خارجية الولايات المتحدة بأنّ بلاده "تعتذر عن المضي في أية مفاوضات تتعلق بتمويل المشروع"، وأنّ أسبابها في ذلك هي أنّ "بلدًا من أفقر بلدان العالم لا يستطيع أن يتحمل تكاليف مشروع من أكبر المشروعات فيه".

إزاء ذلك الرفض الأمريكي، ألقى عبد الناصر خطابه التاريخي في 26 يوليو 1956 وعرض فيه قصة مشروع السد العالي وتمويله، وأعلن تأميم قناة السويس واستخدام إيراداتها في تمويل المشروع، مشيرًا إلى أنّ القناة سُرقت من مصر التي حفرتها وقدّمت 120 ألف إنسان ماتوا خلال عملية الحفر، وأنّ دخلها في عام 1955 بلغ 35 مليون جنيه أي 100 مليون دولار حصلت منها مصر على 3 ملايين دولار فقط.

وفي أعقاب التأميم حدث العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني. وهو العدوان الذي واجه مقاومة بطولية من الشعب والجيش في مصر، وتمكنت مصر بصمودها وإصرارها الأسطوري على المقاومة رغم الفارق الهائل في القوة بينها وبين أعدائها، من حشد تأييد عربي وعالمي كاسح لها ساعدها على كسب المعركة سياسيًا.

رغم كل الصعوبات والعدوان الاسرائيلي الغادر عام 1967 أكملت مصر مشروعها العملاق

وانتهى الأمر بانسحاب قوات العدوان الثلاثي. وعرض الاتحاد السوفيتي السابق تقديم القروض اللازمة والمساعدة الفنية لمصر لإنجاز المشروع. وقامت مصر بدراسة العرض، وبعد مفاوضات قصيرة تم التوقيع في 27 ديسمبر عام 1958 على اتفاقية القرض السوفيتي لتمويل المرحلة الأولى من إنشاء السد العالي بقيمة 400 مليون روبل أي نحو 34,8 مليون جنيه مصري. ويسدد القرض على 12 قسطًا سنويًا اعتبارًا من عام 1964 بفائدة قدرها 2.5% سنويًا. وفى 27 أغسطس 1960 تم عقد اتفاقية مشاركة الاتحاد السوفيتي في تمويل المرحلة الثانية لإتمام المشروع. وقدمت حكومة الاتحاد السوفيتي بمقتضى تلك الاتفاقية 900 مليون روبل (78 مليون جنيه مصري). ويسدد القرض على اثني عشر قسطًا سنويًا متساويًا تبدأ بعد عام من تاريخ إتمام بناء السد العالي، وسعر فائدة القرض 2.5% تسري من تاريخ استخدام كل جزء من القرض، على أن تؤدى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام التالي للعام الذي استحقت فيه، وتم السداد من خلال تصدير منتجات مصرية.

وبعقد ذلك الاتفاق في 27 أغسطس 1960 حسمت مصر تمامًا معركة تمويل بناء سدها العالي وبدأت ملحمة أسطورية لبناء أعظم مشروع قومي في تاريخها القديم والحديث. ورغم كل الصعوبات، ورغم العدوان الاسرائيلي الغادر على مصر عام 1967، أكملت مصر مشروعها العملاق عام 1970 لينهض سدها العالي جبلًا يعترض مجرى النيل العظيم ويروّضه كليًا لأول مرة في التاريخ، وكما هو واضح فهو ينتمي كليًا للعهد الناصري. أما آثاره ومآثره فهي صفحة مضيئة في تاريخ الري والزراعة والكهرباء في مصر، وهي تستحق مقالًا آخر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن