لقد ولدت النزعة الكولونيالية، متسربلة في سياسات الغزو وموجات الاحتلال التي لم تتوقف حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين. وفى موازاتها تنامت نزعة ثقافية نرجسية تبررها وتشرعنها بمسؤولية الرجل الأبيض عن تحضير البشرية، إنها نزعة التمركز الأوروبي حول الذات، والتي عبّرت عن نفسها في نظريات فلسفية ومعارف أنثروبولوجية تتسم بالاستعلاء والعنصرية، تحدثت عن فكر أوروبي يتسم بالوحدة والتماسك والاطراد منذ بداية التاريخ وحتى الآن، وكذلك بالفرادة والكونية، إذ لا يمكن لغير العقل الأوروبي أن يبلغ أفق الفكر الغربي ولا الإسهام فيه نظرًا لفرادته، كما لا يستطيع الهروب منه أو ادعاء الخصوصية في مواجهته نظرًا لكونيته.
وعلى هذا تصبح الحضارة الأوروبية مطلقة النقاء، خالية من شوائب الآخر، تتجذر في تجربة أصلية هي الفلسفة اليونانية.
بلغت تلك النزعة ذروتها مطلع القرن العشرين، حيث خضع الجميع لمنطقها. وحتى عندما كان مفكرون من خارج الغرب يجادلون ضدها، فلم يكن باستطاعتهم أن ينكروا التفوق الأوروبي الماثل أمامهم, بل كانوا ينكرون فقط تفسيراته العنصرية، كالانتماء العرقي أو الاعتقاد الديني، ويؤكدون، في المقابل، على أنه نتاج لتراكم حضاري جرى داخل التاريخ البشري وليس داخل الحضارة الغربية وحدها.
سقطت الإمبراطوريات الكبرى الفرنسية والبريطانية ومنذ الثمانينيات بدأ الحديث عن تراجع القدرة الأمريكية
على تلك الأرضية الثقافية جرت وقائع الحرب الأوروبية الأولى التي خلَّفت عشرة ملايين من القتلى، وأضعافهم من الجرحى والمصابين بعاهات مستديمة وأزمات نفسية، في دراما كونية كانت الأكثر بربرية عبر التاريخ، حفزت شعورًا متشائمًا حول مستقبل الحضارة الغربية لدى فلاسفة التاريخ، خصوصًا أوزوالد شبنجلر الذي شغل الثلث الأول للقرن العشرين بأجزاء مؤلفه "أفول الغرب".
وفي أعقاب الحرب الثانية بدا مصير أوروبا كئيبًا، يخيّم عليه الموت والخراب. لقد سقطت الإمبراطوريات الكبرى، الفرنسية والبريطانية. أما أمريكا، تلك القارة الفتية، فدخلت الحرب متأخرة لتحسمها بضربة نووية ساحقة، دون أن تُمس أراضيها، وخرجت منها وهي تستحوذ على 45% من الإنتاج الصناعي العالمي. وهكذا بدا أننا إزاء عملية وراثة تاريخية للهيمنة العالمية، تجري في إطار الحضارة نفسها، وهو أمر ليس جديدًا على التاريخ.
فقبل أكثر من عشرين قرنًا قامت روما بعملية وراثة ناجحة لليونان، نهضت على أساطيرها الدينية وفلسفاتها العقلية وآدابها الإنسانية، بعد أن أجادت توظيف حيويتها العسكرية في إذابة الروح الإغريقية وتمديد الجسد الروماني إلى نصف العالم تقريبًا، صانعة سلامها الخاص. وها هي الولايات المتحدة ترث التقاليد الثقافية والعلمية الأوروبية، لتصبح بفضلها حيوية الغرب الكبرى، وتعبر بهيمنته من شرق الأطلنطي إلى غربه.
منذ الثمانينيات بدأ الحديث عن تراجع القدرة الأمريكية. لقد أبدى بول كينيدي في كتابه "صعود وهبوط القوى العظمى" قلقه إزاء انهيار هيمنتها حسب القانون الذي حاول أن يجرده عن العلاقة بين القدرة الاقتصادية للقوة العظمى، وبين مستوى التزاماتها العسكرية.
خلقت أمريكا تشققات عميقة في نظام سياسي عالمي كانت تقوده وفي نظام اقتصادي عالمي كان يدور في فلكها
وإذ كان كيندي قد كتب مبكرًا (1987) للتحذير من الانهيار، فإنّ إيمانويل واليرشتاين، الباحث الأمريكي الشهير في دراسة النظم العالمية، كتب مقالًا طويلًا بعنوان "سقوط النسر"، نشر بمجلة السياسة الخارجية، مؤكدًا على أنّ الولايات المتحدة إمبراطورية تنهار بالفعل، وأنّ قدراتها قد تقلصت عبر أربع مراحل أساسية وهي: حرب فيتنام، وثورات الشباب عام 1968، والانهيار السوفيتي الذي لم تكن مستعدة له بسياسات تضبط الواقع الدولي، وأخيرًا اعتداء 11 سبتمبر 2001 الذي كشف عن فشل أمريكي في توقع وتوقي المخاطر الكبرى.
اليوم نجد أنّ نصيبها من الناتج العالمي تقلص إلى نحو 15%، مع عجز تجاري زاد على الترليوني دولار، خصوصًا تجاه الصين. وبدلًا من مواجهة أزمتها الاقتصادية أخذت تثير الأزمات السياسية وتحفز النزاعات العسكرية، حتى باتت عامل فوضى يثير الشكوك ولا يبعث على الثقة. لقد أرادت حصار روسيا فدفعتها إلى غزو أوكرانيا، وربما نجحت في حصارها بالعقوبات، أو في استنزافها بفواتير الحرب، ولكنها، في المقابل، خلقت تشققات عميقة في نظام سياسي عالمي كانت تقوده، وفي نظام اقتصادي عالمي كان يدور في فلكها، منذ اتفاقية بريتون وودز. أما موقفها من العدوان على غزّة، من نفاقها للوحشية الإسرائيلية، وامتهانها أدنى قواعد العدالة والإنصاف والإنسانية، فأفقدها كل شروط الجدارة الأخلاقية للقيادة العالمية، ما يبشر بنهاية المركزية الغربية.
(خاص "عروبة 22")