الحقيقة أنّ معضلة ما يجري في غزّة منذ ما يقرب من عام وما يمكن أن يجري في لبنان في الوقت الحالي، يرجع إلى عجز الخيارات العسكرية والمدنية السلمية على ردع دولة الاحتلال وإيقاف عدوانها.
إسرائيل باتت تتحرك في غزّة وأي مكان وهي متيقنة أنها أصبحت دولة محصّنة فوق القانون والمحاسبة
لقد عجزت الاحتجاجات الشعبية ومؤسسات الشرعية الدولية في منع إسرائيل من استهداف المدنيين في غزّة، وثبت بالصوت والصورة أنها دولة محصّنة فوق القانون والشرعية الدولية، فلا جهود جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية أسفرت عن منعها من ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ولا قرار مجلس الأمن اليتيم بوقف إنساني مؤقت لإطلاق النار احترمته، ولا المجتمع الدولي والولايات المتحدة ضغطا عليها كما يجب لتوقف عدوانها.
المبدأ الذي كرّسته إسرائيل في حرب غزّة يمكن أن تكرره بصور مخففة في أي مكان سواء كان في لبنان أو اليمن أو إيران، فلن تكون هناك حصانة لمستشفى أو دور عبادة ولا لمدني أو مسن أو طفل، لأنّ إسرائيل باتت تتحرك في غزّة وأي مكان وهي متيقنة أنها أصبحت دولة محصّنة فوق القانون والمحاسبة.
بعد كل هذه الممارسات هل يمكن أن تتراجع إسرائيل؟ أو بالأحرى متى يمكن أن تتراجع أو يمكن ردعها؟.. الحقيقة لا يمكن أن يتم ذلك إلا في حالة نجاح فصائل المقاومة في بناء منظومة عسكرية وسياسية قادرة على الصمود العسكري (وهو حادث) والحضور السياسي والتأثير الدولي (وهو غير حادث).
إنّ وجود فريق على الساحة العربية والإقليمية مهما كانت أخطاؤه يواجه إسرائيل بالسلاح ويقول لها إنّ هناك ثمنًا ستدفعه لرفض التسوية السلمية العادلة والقضاء على "حلّ الدولتين" وقتل المدنيين العزّل، يمثّل ورقة ضغط كبيرة على دولة الاحتلال اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا دون تجاهل الثمن الباهظ الذي يدفعه بلد مثل لبنان نتيجة المواجهة بين "حزب الله" وإسرائيل.
ستحتاج القدرات العسكرية لمختلف هذه القوى والفصائل إلى جبهة "إسناد سياسي" وليس فقط عسكري كما يقول "حزب الله"، وهو أمر يجب أن تقوم به أطراف عربية ودولية بعد أن عجزت هذه القوى عن بنائه.
والحقيقة إنه أمر نادر الحدوث أن نجد حركة مقاومة مثل "حماس" لا يستطيع قادة جناحها السياسي التواصل الدقيق مع جناحها العسكري ويخططون سويًا لعملية عسكرية بحجم ٧ أكتوبر/تشرين الأول، التي لم يعرف قادة الجناح السياسي بمن فيهم الراحل الشهيد إسماعيل هنية بتفاصيلها وموعدها، وحتى المظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني ليس لها علاقة بقادة حركة "حماس" السياسيين، كما لا توجد أي علاقة بينهم وبين المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، على عكس تجارب حركات التحرر الوطني التي كان لقادتها السياسيين حضور في كل دول العالم من منظمة التحرير الفلسطينية، مرورًا بجبهة التحرير الجزائرية، وانتهاءً بالمؤتمر الوطني الأفريقي الذي قدّم قائده نيلسون مانديلا نموذجًا ملهمًا في هذا التداخل العضوي بين السياسي والعسكري، وهو صاحب الجملة الشهيرة "اتحدوا! وجهّزوا! وحاربوا!.. إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري"، وهو ما حدث.
ردع إسرائيل يحتاج إلى فعل عسكري وسياسي متداخلين بشكل عضوي
إنّ عدم ترك الخيار العسكري يقرر تقريبًا منفردًا خيارات أي حركة مقاومة لم يحدث تقريبًا إلا مع حركة "حماس" لاعتبارات كثيرة تتعلق ببنيتها العقائدية واستهداف إسرائيل لها، كما أنّ من اختاروا المسار السياسي نتيجة نضال شعبي ومسلّح على يد منظمة التحرير تحوّلوا بعد أن أصبحوا سلطة إلى جهة مراقبة وإدانة أي تحركات مسلّحة لفصائل المقاومة لا أن يكونوا غطاءً لها ويحمّلوا إسرائيل المسؤولية الأولى وراء أي عمل مسلّح على اعتبار أنها هي التي أفشلت العملية السياسية، والأمر نفسه ينسحب على "حزب الله" الذي تتواصل أوروبا مع ممثليه السياسيين، ولكنها تصنّف تنظيمه المسلّح كتنظيم إرهابي ولم يستطع السياسيون أن يغيّروا الموقف الدولي.
ردع إسرائيل يحتاج إلى فعل عسكري وسياسي متداخلين بشكل عضوي كما يحتاج أيضًا أن "يتخاذل" العالم ولو قليلا تجاه أي هجوم تتعرّض له دولة الاحتلال من قبل إيران أو من فصائل المقاومة ولو واحد على مئة من تخاذله تجاه حماية المدنيين في غزّة، أي تترك إسرائيل لمصيرها على سبيل "قرصة الأذن" لتتعلّم أنّ هناك ثمنًا لجرائمها يمكن أن تدفعه مثل أي دولة أخرى في العالم.
(خاص "عروبة 22")