عندما سيبحث المؤرخون في المستقبل عن التغييرات التي طرأت على إقليم الشرق الأوسط قبل وبعد هجمات المقاومة الفلسطينية ضد جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي، لا شك أنهم سيجمعون على أن الشرق الأوسط بعد 7 اكتوبر لن يكون شبيها بما كان عليه قبل تلك الهجمات الجسورة، فهي وبالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر حتى الان، تمثل الحد الفاصل بين الأوضاع الإقليمية قبل وبعد 7 اكتوبر .
وجاء تكثيف حملة الاغتيالات الإسرائيلية لبعض قادة ورموز حركات المقاومة الفلسطينية والعربية- السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفؤاد شكر من كبار قادة حزب الله، واللذين تم اغتيالهما بفاصل زمني لا يتجاوز الاثني عشر ساعة، ومع إعلان الجيش الاسرائيلي عن مقتل محمد ضيف قائد الجناح العسكري لحماس في 13 يوليو الماضي- ليؤكد ان المشهد الدموي الحالي في الشرق الأوسط يعد في حقيقة الأمر مخاضا لشرق أوسط مختلف، يعاد فيه توزيع موازين القوى في أطر تكتلات وتحالفات جديدة كليةً عما سبق، وقد تكون بعثا من قبل الولايات المتحدة لخططها السابقة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي من أجل جعل الشرق الأوسط حلقة من حلقات شبكة التحالفات التي شرعت في تأسيسها آنذاك للوقوف أمام المد الشيوعي ومحاصرة الاتحاد السوفيتي سابقا من الجنوب. وغني عن القول إن لإسرائيل دورا رئيسيا في هذا المخطط، كما كان يراد لها منذ أكثر من سبعة عقود، لكن الصمود المصري ورفض فكرة دخول الدول العربية في أحلاف عسكرية وأد هذا المخطط آنذاك.
الشرق الأوسط الذي بدأت ملامحه تظهر أمامنا على استحياء لكن بقوة الحديد والنار وحسب الرؤى الأمريكية والإسرائيلية سيفك الارتباط بين القضية الفلسطينية ومبدأ تسويتها حسب مقررات الشرعية الدولية وعملية إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بحيث يصبح جزءا من شبكة التحالفات التي نجحت الإدارة الأمريكية الراهنة في إقامتها من المحيط الاطلنطي وحتى المحيط الهادي مرورا بالمحيط الهندي، وهي شبكة تحالفات هدفها الإستراتيجي وفقا للرؤية الأمريكية هو الاحتواء المزدوج لكل من روسيا والصين، وبالتبعية كوريا الشمالية وايران, اي جعل الشرق الأوسط وبإدماج كلي لإسرائيل دبلوماسيا وسياسيا وعسكريا منظومة أمنية عربية - إسرائيلية مشتركة للتصدي لأعداء وهميين هم ايران، والتنظيمات العربية المسلحة الموالية لها او تدين بالولاء الطائفي والسياسي لطهران.
هذا السيناريو ومن أجل ان يتحقق على الأرض يتطلب القضاء على جميع التنظيمات الفلسطينية (حماس والجهاد الاسلامي) واللبنانية (حزب الله) وفي سوريا والعراق. اما بالنسبة للحوثيين، فالتقدير الأمريكي هو انه يمكن التعايش معهم في حالة الاتفاق على وقف إطلاق نار دائم في قطاع غزة، وعلى أساس انه لم يسبق لهم ان استهدفوا اسرائيل قبل 7 اكتوبر الماضي. لكن يبقى أن احد الأهداف الأمريكية على المديين المتوسط والبعيد هو ان تصبح هذه المنظومة الأمنية حامية للممرات البحرية الإستراتيجية والتي تقع في الخليج العربي والشرق الأوسط من مضيق هرمز في الشرق مرورا بباب المندب جنوبا ثم قناة السويس. أما بالنسبة لمضيق جبل طارق فقد نجحت الإستراتيجية الأمريكية في تشجيع كل من المغرب وإسرائيل على التوقيع على اتفاق تعاون امني ،علاوة على قيام الأخيرة بتصنيع قمر صناعي لحساب الحكومة المغربية في صفقة تبلغ قيمتها مليار دولار.
إن الشرق الأوسط القادم سيستند إلى قوة الردع الإستراتيجي الإسرائيلية, وهو ما يفسر آمرين، هما الاستخدام المفرط للقوة المسلحة التي لجأ إليها الجيش الاسرائيلي منذ 8 اكتوبر المنصرم، والدعم العسكري بدون سقف الذي تقدمه الولايات المتحدة للدولة العبرية على مدى العشرة أشهر الماضية. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ان الرئيس الأمريكي جو بايدن وعد نيتانياهو في مكالمة هاتفية يوم الجمعة 2 أغسطس بأن إدارته تقف جنبا الى جنب مع إسرائيل لصد اي هجمات قد تتعرض لها من قبل إيران او حزب الله بعد اغتيال إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية، وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية ببيروت. وتزامن مع هذا التعهد إرسال 12 قطعة بحرية أمريكية الى شرق المتوسط كقوة ردع تساند إسرائيل عسكريا في حالة شن هجوم عليها .
هذا المخطط الجديد - القديم يمثل تحديا وتهديدا لأمن واستقرار الدول العربية ولمستقبل التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، فهو لكي ينجح سيعمل وفق صيغة السلام من اجل السلام، تلك الصيغة التي ابتدعها نيتانياهو، وكرستها الإدارة السابقة لدونالد ترامب في الاتفاقيات الإبراهيمية وصفقة القرن في 2020، وليس معادلة الأرض مقابل السلام وفقا لقرار مجلس الأمن (242) في 22 نوفمبر من عام 1967.
عربيا الأمر يتطلب مراجعات لمجمل السياسات العربية السابقة على 7 أكتوبر في التعامل مع إسرائيل وفي التعامل مع الولايات المتحدة كقوة عظمي. فالعشرة أشهر الماضية والعدوان الإسرائيلى المستمر دون هوادة على الشعب الفلسطيني من أجل تصفية القضية الفلسطينية برهن على ان هذه السياسات تحتاج مراجعة نقدية ضرورية، ربما تؤدي الى استخلاصات مفيدة لكيفية التعامل مع الشرق الأوسط القادم وتحدياته وتهديداته لأمن واستقرار الدول والشعوب العربية، أخذا في الاعتبار أن الإستراتيجية الأمريكية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط لن تتأثر بأي شكل من الأشكال بمن سيكون رئيس الولايات المتحدة في يناير المقبل .