لقد راهنت مشاريع التَّغيير والإصلاح على تباين مشاربها في العالم العربي والاسلامي؛ على محاولة اقتناص اللَّحظات التَّاريخية الفَارقة، ولأجل ذلك قامت بالتَّعبئة الاجتماعية وحتىَّ السياسية؛ اعتقادًا منها، بأنّ التَّغيير الكلي والشَّامل؛ هو المفتاح الحقيقي للبدايات الحضارية، فإمَّا أن تُولد الحضارة مُكْتَمَلَة شاملة، وإما أنّها تبقى مستورة غير منظورة؛ وما الإرادات الثَّورية والانقلابات السياسية والتَّجيشات الجماهرية إلا شواهد حيّة على هذا الخط في التَّفكير والتَّدبير.
لا بدَّ من بث الوعي في العقول بأنَّ الإنجازات التَّاريخية المليئة بالمعنى هي ثمرة للواجبات الصَّغيرة اليومية
لكنّ التحولات الإنسانية في تجاربها بخاصة النَّاجحة منها، تجعلنا، نعيد مراجعة حقيقة الفعل الذي يبني ويُغَيِّر ويملأ الوجود بالمعنى؛ إنّه ليس ذلك الفعل الكلي الذي تقوم به يد خفية أو فئة ثورية، تُوهِم التَّشكيل الاجتماعي، بأنَّها تفكر في مكانه، وتأخذ بيده إلى آفاق التَّجديد وفتح دروب أخرى في التَّاريخ؛ فهذا الفعل بلغة مناطقة العرب: مُقدَّر في الذّهن وليس له تحقُق في العين؛ فضلًا عن أنّ دوافعه هي إرادة السيطرة وليس التنمية؛ لأننا كما يقول لونغ فيلو "لا نملك أجنحة، فلا يمكننا التّحليق... لكننا نملك قدمين لنرتقي ونتسلّق". وهذا التسلُّق بالقدمين هو مقصودنا بكلمة: الفعل في حدّه الأدنى؛ فالبدايات الصَّائبة؛ تتطلَّبُ مراعاة الأشياء الصَّغيرة وتركيز قوة الفكر والإرادة عليها، أمَّا الذي يفسد واجباته الصَّغيرة؛ بحجة أنَّه ينتظر اللَّحظات أو المعجزات الكبيرة؛ فهو واهم ولن تحدث تلك المعجرات، بل سيخسر حكمته ويُشَتّت طاقته.
وإذ بانت أهمية وحاسمية الفعل في حدِّه الأدنى، فإنَّ التغيير في الفضاء العربي يجب أن لا يخرج عن هذه القاعدة الرُّوحية الثَّمينة، لا بدَّ من بث الوعي في العقول وفي القلوب، بأنَّ الإنجازات التَّاريخية المليئة بالمعنى، هي ثمرة للواجبات الصَّغيرة اليومية، التي يقوم بها الشَّخص والأشخاص، فكل ضَخم ورفيع في التَّاريخ؛ انبثق من بدايات صغيرة، وحتى الشَّخصيات اللاَّفتة والمبدعة كانت بدايتها هي الواجبات الصَّغيرة والأعمال اليومية التي تدخل كعناصر، لأجل تكوين البنية الكلية التي هي النَّجاح فيما بعد. فلا وجود لشخصية ولدت مكتملة، بل إنَّ الاكتمال هو سيرورة من قوة الإرادة وتركيز التَّفكير وحفظ الطاقة.
إنَّ قاعدة الفعل في حدّه الأدنى، ليست قاعدة فردية، بل هي قانون سببي كوني، يسري في عالم المادة وفي عالم الإنسان، فأعظم الفيضانات تشكَّلت من بضع حبات من المطر، والأشجار العملاقة التي تتحمَّل أعاصير الشتاء كان ذات يوم بذرة، وقطعة الزجاج الملقاة في الغابة، يمكن لها أن تحرق بلدة بأكملها، وكذا الأمر في عالم الإنسان: يمكن لفكرة أو رأي أن يغيّر مجرى التاريخ، وقديمًا قال الشاعر العربي: فإنّ النَّار بالعيدان تُذكى / وأنَّ الحرب مبدؤها الكلام.
جليّ إذن، الوزن الثقيل للبدايات الصَّائبة والأفعال الحكيمة التي نقوم بها كل يوم، فالحضارة في روحها، إنما هي أن يقوم كل شخص بواجبه، الواجب اليومي في معناه البسيط، كي تتكامل واجبات الأشخاص ويَشْرَع الفعل الاجتماعي في الحركة والتَّغيير: تغيير أساليب قديمة بأخرى جديدة، تغيير النَّظرة إلى العالم، تغيير حتى أسماء الأشياء وعناوين الفعل: فمن إهدار الوقت إلى عمارته، ومن الفراغ اليومي إلى النَّشاط والإبداع، ومن التشرذم الاجتماعي إلى التواصل من أجل فكرة أو عمل مفيد.
عشنا زمنًا فارغًا منتظرين اللَّحظات الكبرى فكانت نتيجة الانتظار: فقدان القوة وخسارة الإمكانات وانشطار المشاريع
من هنا، فإنَّنا نبصر مدى تلك الأثار العميقة التي يتركها الفعل في حدّه الأدنى أو الواجبات الصَّغيرة اليومية، إنها الدرجات نحو البناء الاجتماعي ونحو استعادة المجتمع لدوره التاريخي، يجب علينا أن لا نُتَفِّه الأفعال الصَّغيرة، بل إنها هي المرتكزات الصَّلبة والمنطلقات الصائبة، فقد عشنا زمنًا فارغًا في الثقافة العربية والإسلامية، منتظرين تلك اللَّحظات الكبرى، فكانت نتيجة هذا الانتظار: فقدان القوة وخسارة الإمكانات وانشطار المشاريع.
إنّ الفعل في حدّه الأدنى، هو الأفق الذي على كل عربي ومسلم أن يسكن فيه، فقد انتهى زمن الانتظار؛ وبدأ زمن الفعل والواجب، وهذا هو الطريق الذي بقي لنا؛ ويجب أن نسلكه ونكابد من أجل ذلك. إنه طريق النمو انطلاقًا من الواجبات الصغيرة وليس طريق السيطرة من خلال المعجزات الخطيرة.
(خاص "عروبة 22")