الهوية بمعنى الوعي الذاتي، وهي المقولة التي تجسدت بقوة في فلسفة ديكارت ومن بعده كانط وهيغل، وتعني الذاتية المفكرة أي تمحور عملية التفكير حول الأنا بدلًا من الوجود كما كان الحال في الفلسفة اليونانية القديمة، الهوية هنا ذاتية، وإن كانت ليست بالضرورة فردية، لأنّ المقصود بالذات هو الوعي في أبعاده الإنسانية الكونية، أي ما أطلق عليه كانط الأنا الترنسندنتالية (أو المتعالية).
أما المفهوم الثاني فهو الهوية بالمعنى القانوني والسياسي من منطلق فكرة المجموعة السياسية المنظمة التي ترتبط بعقد مدني يكرّس وحدة المجتمع في إطار دولة تجسّد الإرادة المشتركة. ذلك هو التصور الذي كرّسته فلسفات العقد الاجتماعي من هوبز ولوك إلى روسو وكانط. ولا يزال هذا التصور هو الخلفية العميقة والثابتة للرابطة المدنية التي هي البديل عن مقولة الاجتماع المدني الطبيعي لدى أرسطو.
أما المفهوم الثالث فهو الهوية بالمعنى القومي، الذي يكرّس أولوية الانتماء العضوي الشعوري على الجماعة المدنية المنظمة، باعتبار أنّ وحدة المجتمع تتأسّس على قاعدة روحية وقيمية جوهرية وليس على مجرد التوافق المصلحي بالمعنى القانوني المدني.
المفاهيم الثلاثة شديدة الترابط والتداخل في المنظومة الفكرية الحديثة
من الواضح وفق هذه التمييزات، أنّ الفكر القومي العربي تعامل مع سؤال الهوية بالمعنى الثالث فقط الذي يركّز على المقومات الثقافية والشعورية لوحدة الأمة وأهمل المفهومين الأولين.
والواقع أنّ المفاهيم الثلاثة شديدة الترابط والتداخل في المنظومة الفكرية الحديثة، ذلك أنّ الذاتية الواعية هي أساس مفهوم الحرية بمعنى الإرادة المستقلّة غير المقيّدة التي هي مرتكز وأرضية فكر التنوير والتحديث.
كما أنّ المفهوم القانوني والمدني للهوية لا محيد عنه في أي مقاربة ليبرالية وديمقراطية، بما يفترض من قيم المواطنة المتساوية والمشاركة الفاعلة في مسارات القرار والمسؤولية. الخطأ الكبير الذي انساق فيه بعض رواد الفكر العروبي هو فصل فكرة الهوية الثقافية العضوية عن التصورات الذاتية والمدنية للمجموعة السياسية، بما كان له أسوأ الأثر على تجارب العمل القومي حزبيًا وحكوميًا.
التيار القومي العربي واجه مصاعب في التأقلم مع المنظومة الليبرالية في جانبيها الفردي والاجتماعي
لقد انعكس هذا الانقسام المفهومي على الخارطة السياسية العربية التي تشتّتت إلى تيار ليبرالي فرداني لا يفهم الحرية إلا في دلالتها الانكفائية الضيّقة التي تعني التمرّد على النظام الاجتماعي، وتيار مدني يختزل الرابطة الجماعية في مقومات ومطالب المشاركة السياسية، وتيار قومي يرى أنّ الوحدة الاندماجية شرط مسبق للتحرّر الفردي والاجتماعي.
وهكذا نلمس أنّ التيار القومي العربي واجه مصاعب جمة في التأقلم مع المنظومة الليبرالية في جانبيها الفردي والاجتماعي، ولم يرَ في تجارب الديمقراطية التعددية التي مرّت بها ساحات عربية عديدة سوى أشكال فاسدة من التنظيم السياسي يتعيّن كبحها وتجميدها كما وقع في مصر وسوريا والعراق مع "الثورات القومية".
لم يكن تأثّر الفكر القومي العربي بالأيديولوجيا الاشتراكية منذ نهاية الأربعينيات اعتباطيًا، بل إنه يفسّر بما كانت تطرحه هذه الأيديولوجيا من تصوّر أحادي للنظام السياسي من منطلق رفض الوسائط المجتمعية والمدنية للمواطنة في إطار الدولة المجسّدة للمجتمع المدني.
لقد لاحظت الفيلسوفة الألمانية- الأمريكية حنة أرندت أنّ ما يميّز الأنظمة التسلّطية الحديثة عن الأحكام الاستبدادية القديمة هو إدعاء تجسيد الحرية الحقيقية بحيث تكون كل معارضة لنظام الحكم نوعًا من خيانة الوطن والأمة، في حين أنّ الحاكم في الدولة القهرية السابقة هو الوحيد المتمتع بالحرية والمؤهل لقيادة المجتمع نحو الفضيلة والخير. من هنا يمكن تصنيف التجارب السياسية القومية في خانة التسلطيات الحديثة التي تمارس الاستبداد باسم الحرية المطلقة.
(خاص "عروبة 22")