الفريق الأخير يبني رؤيته على أن السعودية ستواجه ضغوطًا - داخلية وخارجية - تفرضها مكانتها كزعيمة للعالم الإسلامي والمسؤولة عن أهم مدينتين مقدستين (مكة والمدنية)، أما إسرائيل فوضع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المحاصر باحتجاجات غير مسبوقة إثر تمرير تعديلات قانون السلطة القضايئة لا يسمح له بفتح جبهة جديدة مع خصومة في حال قدم تنازلات مقابل التطبيع مع الرياض، وهو الموقف ذاته الذي ينتظر الراعي الأمريكي، إذ سيقابَل الرئيس جو بايدن بمعارضة شرسة لو قبل بشروط المملكة المتعلقة بالأمن والتسليح.
"إما ضمّ الضفة أو السلام"... الحصول على الأمرين معًا غير ممكن
على مدار الأشهر الماضية، يسعى المسؤولون الأمريكيون إلى التوصل لاتفاق تاريخي بين السعودية وإسرائيل، كانت آخر تلك المساعي، الدفع بمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى جدة؛ لإجراء محادثات مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي أعلن الرئيس جو بايدن أنها قرّبت الاتفاق بشأن التطبيع، مضيفًا في مؤتمر أمام المساهمين في حملة إعادة انتخابه لعام 2024 في ولاية مين، يوم الجمعة الماضي: "هناك تقارب ربما يكون جاريًا" لكنه لم يذكر أية تفاصيل أخرى.
الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، والذي التقى بايدن مؤخرًا في البيت الأبيض أشار إلى أن الرئيس "أعطى الضوء الأخضر لفريق سوليفان بالتباحث مع الأمير محمد بن سلمان حول ثمن الصفقة".
"ربما لم يُحل الخلاف بعد حول التنازلات الممكنة، وهو ما يمنع إعلان تفاصيل هذه المفاوضات، التي تمضي بشكل أسرع مما كان متوقع"، يضيف فريدمان في مقال نشر قبل أيام بصحيفة نيويورك تايمز.
ويرى فريدمان أن "المباحثات الأمريكية السعودية مهمة لما للتطبيع من تأثير الدومينو على باقي الدول الإسلامية التي ترفض إسرائيل، وما يستتبع ذلك من تحالف أمني بين واشنطن والرياض قد يقلص من التأثير الصيني في المنطقة".
ويلفت فريدمان إلى أن هناك خيارًا صعبًا تفرضه هذه المباحثات على الجانب الإسرائيلي "إما ضم الضفة الغربية أو سلام مع السعودية والعالم الإسلامي بأسره، ذلك لأن الحصول على الأمرين معًا غير ممكن".
فرص السعودية
تقف السعودية في الجانب الأقوى من هذه الصفقة، لأنها لم تعد مقيدة بمدرسة واشنطن القديمة للدبلوماسية "إما أن تكون معنا أو ضدنا"، خاصة بعد الخطط الأمريكية الرامية إلى الانسحاب من الشرق الأوسط والتي أفقدتها بعض من هيمنتها على دول الخليج، التي انفتحت بدورها -وعلى رأسها السعودية- في اتجاه المعسكر الشرقي (الصين وروسيا).
الباحث السعودي عبد الكريم مهدي رشيد مهنا، يقول في تحليل نشره مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية، إن السعودية عالجت غياب التأمين الأمريكي بتطوير العلاقات مع روسيا وحليفتها الصين، التي سعت للسيطرة على ما فقدته أمريكا من قوة في الشرق الأوسط، وبسياسة مغايرة، ترضي الخليج بشكل أكبر، وتعتمد على الشراكة.
وقد مهد هذا في النهاية إلى تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية برعاية صينية، ومنح بكين تفاهمًا اقتصاديًا وسياسيًا مقنعًا مع الرياض. وقال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، في تصريحات الشهر الماضي، إنّ المملكة لا تلتفت لانتقادات الغرب بشأن تنامي العلاقات الصينية السعودية.
"هذا بالتأكيد يقلق الولايات المتحدة، التي ترى في زيادة النفوذ الاقتصادي للصين والمملكة العربية السعودية احتمالية لتأثير سلبي عليها"، يضيف مهنا في تحليله الذي نشره منتصف يوليو/ تموز الماضي.
الشروط الأربعة
من هذه النقطة القوية، تفرض السعودية 4 شروط رئيسية لقبول التطبيع مع إسرائيل؛ 3 منها تطلبها من الولايات المتحدة، وتتضمن:
- معاهدة أمنية متبادلة على مستوى الناتو من شأنها أن تلتزم الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة إذا تعرضت للهجوم.
- برنامج نووي مدني تراقبه الولايات المتحدة.
- القدرة على شراء أسلحة أمريكية أكثر تطورًا، مثل نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ الباليستية في منطقة الارتفاعات العالية، لمساعدة المملكة في مواجهة ترسانة إيران للصواريخ المتوسطة والطويلة المدى المتنامية.
في المقابل، تطلب الرياض من إسرائيل حل القضية الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس. وهو شرط لا يتضح إلى الآن كيف ستعالجه الولايات المتحدة، في ظل رفض حكومة إسرائيل الحالية الالتزام به. ويقول مهنا إن تحقق هذا الشرط بالنسبة للسعودية مكسب كبير، لما له من تأثير قوي وتأكيد على قوة وزعامة وتأثير المملكة على العالم العربي والإسلامي وقدرتها على بسط السلام والاستقرار في المنطقة.
ويعزّز ما ذهب إليه مهنا، تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، التي أدلى بها خلال زيارة وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى المملكة في يونيو/ حزيران الماضي، والتي أشار فيها إلى أن التطبيع مع إسرائيل سيكون "محدود الفوائد دون إيجاد طريق سلام للشعب الفلسطيني".
التطبيع طوق نجاة لنتنياهو؟
بينما "تصلي إسرائيل مع أجل تطبيع العلاقات مع السعودية" وفق تعبير رئيسها يتسحاق هرتسوغ، ينظر نتنياهو إلى هذه الصفقة باعتبارها طوق نجاة ينقذه من الوضع الداخلي الآخذ في التصعيد بفعل خططه للحد من سلطات المحكمة العليا في إلغاء إجراءات حكومته.
وقد بدأت أزمة القيود على السلطة القضائية الإسرائيلية قبل 7 أشهر، وأشعلت احتجاجات هي الأكبر في تاريخ الكيان الإسرائيلي، وتفاقمت عندما أقرّ الكنيست تعديلًا يقلّص سلطات المحكمة العليا في إلغاء قرارات الحكومة، وشاركت أعداد متزايدة من جنود الاحتياط قرروا التوقف عن الخدمة للتعبير عن معارضتهم. وأقر الجيش بوجود زيادة في طلبات الامتناع عن الخدمة.
يأتي هذا بينما لا تخلو الأراضي المحتلة من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، والتي تصاعدت مع وصول حكومة نتنياهو إلى الحكم في نوفمبر الماضي، إذ أشعلت هذه الحكومة، منذ يوم توليها السلطة الأول، التوتر داخل الأراضي المحتلة بدايةً من اقتحام وزير الأمن القومي اليميني إيتمار بن غفير للمسجد الأقصى في يناير الماضي، وواصلت بعد ذلك انتهاكاتها بتنفيذ اقتحامات عسكرية بالمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، جنين ومخيمها، ونابلس، وحوارة، وتشجيع المستوطنين على ارتكاب الجرائم بحق المدنيين الفلسطينيين، الأمر الذي أدى إلى اندلاع مواجهات، أسفرت عن عشرات من الشهداء ومئات المصابين في الجانب الفلسطيني.
ورغم اعتبار بعض المحللين أن التطبيع الإسرائيلي مع السعودية قد يصب في صالح حكومة نتنياهو ويخفف عنها الضغوط، إلا أن ذلك مشروط بأن تحصل تل أبيب على التطبيع مجانًا كما حصلت عليه من دول أخرى بالمنطقة، أما إذا اضطرت الحكومة اليمينية إلى تقديم تنازلات أو غضّت الطرف عن حصول الرياض على مكاسب من الراعي الأمريكي في مجالات التسلح والأمن فإن ذلك سيفتح بابًا جديدًا لحصار الحكومة المأزومة، إذ إنّ كفة الردع الإسرائيلية في الشرق الأوسط قد تختل.
رئيس وزراء الدولة العبرية أدلى خلال الاجتماع الأسبوعي الأخير لحكومته بتصريحات عن مشروعات نقل لربط إسرائيل بالسعودية وشبه الجزيرة العربية فُهم منها أن المفاوضات في اتجاه إقامة علاقة رسمية الرياض تتطور، إلا أن حديث يولي إدلشتاين رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست والعضو البارز في حزب الليكود بدا أكثر تشاؤمًا.
إدلشتاين قال لراديو الجيش الإسرائيلي إن "أيّ تأسيس لعلاقات مع السعودية لا يبدو وشيكًا على الرغم من تنبؤ الرئيس الأمريكي الأسبوع الماضي بتقارب محتمل بين الجانبين.. اعتقد أنه من السابق لأوانه جدًا الحديث عن اتفاق تطبيع".
مأزق واشنطن
في البيت الأبيض، يرغب بايدن في أن ينهي فترته الرئاسية الوشيكة بصفقة تاريخية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، التي يريد منها أيضًا إنهاء القتال في اليمن، وحزمة مساعدات كبيرة لم يسبق لها مثيل للمؤسسات الفلسطينية في الضفة الغربية وقيودًا كبيرة على العلاقات المتنامية مع الصين.
لكنه في المقابل يصطدم بعلاقات متوترة مع حكومة نتنياهو على خلفية أزمة قانون التعديلات القضائية وممارسات حكومته بحق الفلسطينيين، والتي يراها تعرقل مساعيه إلى الحد الذي دفعه إلى انتقاد هذه الحكومة بشكل علني في لقاء مع "CNN"، واصفًا إياها بأكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفًا.
ويرى سيث ج. فرانتزمان المحلل المتخصص بالشرق الأوسط في جريدة "جيروزاليم بوست" العبرية أن زخم التحركات الأمريكية في سبيل التطبيع بين السعودية وإسرائيل مهدد بالحوادث التي قد تعرقل الصفقة في الأخير.
ويقول في تحليل نشره قبل أيام إن مسألة التطبيع ممكنة، لكنها تتطلب أولًا أن يكون هناك "سلام شامل يتضمن الفلسطينيين، تريده السعودية، وتعرقله الحكومة اليمينية في إسرائيل"، ففي حين أن التطبيع يمكن أن يحدث، فإن اشتباكات الضفة الغربية تجعل الأمر أكثر صعوبة.
ويتفق معه توماس فريدمان، الذي يرى أنّ أفضل خطوة الآن هي مبادرة استراتيجية كبيرة ترضي المعتدلين في كل طرف، وتتجاهل المتعصّبين. وينصح واشنطن والرياض بمطالبة نتنياهو بـ4 أشياء مقابل جائزة ضخمة مثل التطبيع والتجارة مع أهم دولة عربية إسلامية:
- وعد رسمي بعدم ضم الضفة - إطلاقًا.
- عدم إقامة مستوطنات جديدة في الضفة الغربية أو التوسّع خارج المستوطنات القائمة.
- عدم تقنين البؤر الاستيطانية اليهودية.
- نقل بعض الأراضي المأهولة بالفلسطينيين من المنطقة (ج) في الضفة الغربية (الخاضعة الآن للسيطرة الإسرائيلية الكاملة) إلى المنطقتين (أ) و (ب)، الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، وذلك على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات أوسلو.
ترقب الرياض
أخيرًا؛ تقف الرياض في موقف المترقّب بعد أن وضعت شروطًا يصعب على طرفي معادلة التطبيع الآخرين تنفيذها في الوقت الحالي، فلا الحكومة الإسرائيلية بتكوينها الحالي ستمنح الفلسطينين أي حقوق بل قد تذهب إلى صنع معركة للفت النظر عن الاحتجاجات التي تحاصرها، كما أنه ليس من السهل على الراعي الأمريكي القبول بالشروط السعودية الخاصة بالتسليح والأمن للدولة التي وعد بأن يجعلها "منبوذة"، وفي المقابل لن تُضار المملكة بموقفها الحالي، فإدارتها تنتظر تحركات اللاعبين الآخرين على رقعة الشطرنج وتدرك تمامًا أنه لا مجال لأن تُمنى بأي خسائر محتملة من الترقب والانتظار.
(خاص "عروبة 22")