بصمات

نحو تحصين الوعي العربيّ

للمعـرفـة، في مجـال الإنسـانـيّـات، مخـتَـبَـرٌ تَـخـضـع فيـه للفـحـص والتّـبـيُّـن نظيـر المعـرفـة، في ميـدان الطّـبـيـعـيّـات، وحـقـلِ تجـاربـها في مخـتـبرات العِـلـم. وكمـا لا يُـحْـكَـم على فـرضيّات العـلـم الطّبيـعـيّ ومـقاديـرِ الصّـحّـة والبـطـلان فيـها إلّا بعـد وضْـعـها مـوضـعَ الاختـبـار التّجـريـبيّ، كذلك لا يُـحْـكَـم على المعـرفـة - في ميـاديـن الإنسـانـيّـات والاجتـماعيّـات - إلاّ بعـد زِنَـتـها في ميـزان الواقـع والتّـاريـخ. إنّ الأخيـريْـن يقـومـان، في هـذا النّـوع من المعـارف التي تـتعـلّـق بالوجـود الإنـسانـيّ، مقـام المخـتَـبـرات في عـلـوم الطّـبيـعة.

نحو تحصين الوعي العربيّ

ولقـد يجـوز أن تُـخْـتَـبَـر الفـكـرةُ في مخـتـبـر المعـرفـة والمنـطـق فـيُـقـال في حـقّـها إنّـها صحيحـة أو مغـلوطـة، صادقـة أو كاذبـة لكنّ هذا المعيار الإيـپـيستيمولوجيّ الذي تـقاسُ به لا يُـطْـلِعـنـا، أَلْـبَـتَّـةَ، عـمّـا إذا كانت الـفـكرة تلك ذاتَ مـنـفـعـةٍ في الواقـع وتـجيـب عـن حاجـات يمـليـها التّـطـوّر التّـاريـخيّ أو لا، لذلك لا نـدْحـة عـن اعـتـمـاد حُـكْـمِ الواقـع والتّـاريـخ من أجـل إحسـان تـقـديـر فائـدة الأفكـار أو عـدم فـائـدتـها.

الواقع والتّاريخ هُما ما يفتحان الفـكر على هذا المرجع أو ذاك أو عليهما معًا

على المـنـوال عيـنِـه ينـبـغي أن ينْـسُـج كـلُّ فـكـرٍ عـلائـقَـه بالثّـقـافـات ومنـظـومات الأفـكـار التي يتّـصـل بها جـزئـيًّا أو كـليًّا؛ القـديـمُ منـها والحـديث، المحـلـيّ والوافـد. وهـذا، في حالتـنا الثّـقافـيّـة العـربيّـة، المسْـلـكُ الأَقْـوم الذي على وعيـنا أن يَـسْـلُـكـه تجـاه المـرجـعـيّـتـيْـن اللّـتيـن تـفرضـان نـفسيـهما عليه منذ قريبٍ من قـرنيـن: المرجعـيّـة التّـراثـيّـة والمرجعيّـة الغربيّـة الحديـثـة. إنّ الاسـتـقـطاب الفـكـريّ العـربيّ بيـنـهـما والانـقـسامَ إلى حـزبيْـن ينـتـصر كـلٌّ منـهـما لمـرجعـيّـةٍ على حسـاب أخـرى، غيـرُ ذي معـنًـى ولا جـدوًى لأنّ أصـحـابـه - مـن هـذا الجانب ومـن ذلك - يـفـترضـون أنّ المـرجع الذي يمـحـضونَـه الولاء مـوثـوقٌ لا شَـوْبٌ يشـوبُـه ولا عُـوارٌ يـعـتـريـه؛ وهـو ما ليس صحـيحـًا وما ليس مـن دليـلٍ عليه وإنّـما هـو ممّا يُسـاق من بـاب الانحيـاز الإيديـولوجيّ من قِـبَـل فـريقـيْ الحـرب الأهـلـيّـة الـفـكريّـة العربيّـة معًا، الأَصالـيّ والحـداثـيّ، إلى هذا المرجـع وإلى ذاك.

ونحسب أنّـه ما مـن مَخـرجٍ مـن هـذه المفاضَـلة السّخيـفـة بين المـرجعيْـن إلاّ مـن طريـق اعـتمـاد القاعـدة التي تقـول إنّ الواقـع والتّـاريخ هُـما ما يَـفـتحـان الـفـكرَ على هـذا المرجـع أو ذاك أو عليـهـما مـعًا، إنْ هـما أسْـعَـفـا الوعـي بمـوارد الإجـابـة عن المعضـلات التّـاريـخيّـة؛ كمـا قـد يَـحْـمِـلانـه على البحـث عن تلك المـوارد أو اجـتـراحِها إنْ لم تُوجـد في أيٍّ من تيـنِـك المـرجـعـيّـتـيْـن الفـكـريّـتـيـن. صحـيح أنّ الاستـغـناء عـن أيٍّ منـهـما صـعـبٌ، بل مستـحيـل، ولكـنّ الحاجـة إليهـما تـتـحـدّد مـن قِـبَـل سلطـةٍ أخـرى علـيـا - في مقـام سلطـة المـرجـعيـن - هي الواقـع الـتّـاريـخيّ.

يكون تحصينُ الوعي ممكنًا من طريق النّقد والتّشبُّع بالتّاريخيّة والنّسبيّة

هـذه، أيـضًا، طـريـقةٌ ناجـعـة لتـدريـب الوعـي العـربيّ على التّـاريـخـيّـة؛ لجـعْـلـه يـرتاض على مُـعَـايَـرَة الأفـكـار في مكايـيـل التّـطـوُّر التّـاريـخـيّ ومـتـطـلّـبـاتـه المـوضوعيّـة، ولكـي يتـشبّـع بمـبـدأ التّـاريـخ ويَـحُـدَّ فيـه مـن فيـض مبـدأ الـرّغـبـة: المبـدأ الذي مـأتـاهُ مـن الـذّات لا مـن المـوضوع وممـكـناتـه. وغـنـيٌّ عـن البيـان أنّ الوعـي التّـاريـخـيّ وحـده يضـع حـدودًا لليـقـيـنـيّـات الجامـدة التي مـأتاهـا مـن الـرّكـون إلى أفـكـارٍ مّـا والتّـعـالي بـها عـن حـدود الواقـع الموضـوعـيّ. ولا نغـلو إذْ نـقـول إنّ هـذا الرّكـون هـو الغـالبُ على تـيّـارات الفـكـر العـربيّ السّـادرة في مرجـعـيّـاتـها المُـغْـلَـقـة، والمـتـشـرنـقـة داخـل شـرانـق النّصـوص معـتـاضـةً بها عن الواقـع وأحكـام التّـاريـخ. إنّـه (= الوعـيَ التّـاريـخـيَّ نـعـنـي) يضـع لتلك اليـقيـنـيّـات حـدودًا لأنّـه يضـعـها في مخـتـبـر التّـاريـخ: وهـو متـغـيّـر لا ثـابـت، صـيـروريٌّ لا بـنـيـويّ...، أي يـتـحـوّل فيـه اليـقيـن بالشّـيء تـبـعًا لتـحـوُّل الأخـيـر.

ما أغـنـانـا عـن القـول، بالتّـبِـعَـة، إنّ التّـشـبُّـع بالتّـاريـخـيّـة لـوعـيٍ أو ثـقافـةٍ هـو الوجْـهُ الآخـر للتّـشـبُّـع بمـبـدأ النّـسـبـيّـة. بيـان ذلك أنّ كـلَّ شيءٍ نـسـبـيٌّ في منـظـور التّـاريـخ، لأنّـه مـنـتـقـلٌ - حـكـمًا - من حـالٍ إلى حـال؛ أي  ليـس على حـالٍ واحـدةٍ  ثـابتـة أبـديّـة ومطـلـقـة؛ أي - بـعـبارة أخـرى - نسـبـيٌّ خـاضـعٌ لأحكـام التّـغـيُّـر. وعـنـدي أنّ نصـوص الـفـكـر لا تعلِّـمـنـا، دائـمًا، مـبادئ النّـسـبـيّـة وفضـائـلـها... وإنّـما التّـاريـخُ هـو الذي يُـظْهِـرُنا على حقـيقـة أمْـرها. وعليه كما يكـون تحصيـنُ الوعـي ممكـنًا من طريـق النّـقـد، كذلك يكـون من طـريـق التّـشـبُّـع بالتّـاريخيّـة والنّـسـبـيّـة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن