تُظهر تجربة الاتحاد الأوروبي استفادة الشركات والعمال والمستهلكين على السواء من إنشاء السوق الأوروبية المشتركة ثم تأسيس الاتحاد الأوروبي، حيث تسمح التجارة الحرّة لجميع الشركات الأوروبية بشراء وبيع السلع والخدمات لبعضها البعض دون فرض ضرائب إضافية من قبل الحكومات مع وجود معايير ومقاييس موحّدة.
وسمح ذلك للشركات الأوروبية بالاستفادة من السوق الكبيرة في خفض التكاليف وزيادة الإنتاج والاستفادة التكاملية من مميّزات كل دولة.
زيادة ربحية الشركات الأوروبية مستفيدةً من سوق أكبر وقدرة على بيع المزيد من المنتجات والحصول على مواد خام أرخص
على سبيل المثال، في صناعة السيارات، تحوّلت دول أوروبا الغربية الثرية والمتقدّمة مثل ألمانيا وفرنسا من مواطن للتصنيع إلى مراكز لرأس المال والتصميم والابتكار، بينما انتقل كثير من مصانع السيارات إلى دول أوروبا الشرقية والجنوبية الأفقر مثل إسبانيا والتشيك والسلوفاك لتستفيد من رخص الأيدي العاملة والأراضي، ما مكّن صناعة السيارات الأوروبية من منافسة نظيراتها الآسيوية والتركية عكس الأمريكية التي تواجه مشكلات بسبب ارتفاع الأجور ومجمل التكلفة بالولايات المتحدة.
وأدى ذلك لزيادة ربحية الشركات الأوروبية وتوزيع أفضل لمرافق الإنتاج بطريقة تلائم كل دولة، مستفيدةً من وجود سوق مستهدفة أكبر، والقدرة على بيع المزيد من المنتجات، والحصول على منتجات ومواد خام أرخص.
كما شجعت السوق الموحّدة للاتحاد الأوروبي، الأكبر حجمًا من الأسواق القُطرية المنفصلة، على الإنفاق في الابتكار في مواجهة الشركات القادمة من الأسواق الصينية واليابانية والأمريكية الكبيرة.
في المقابل، استفاد المستهلكون من تنوّع خيارات الشراء والأسعار الأرخص، ونُظُم حماية المستهلكين الموحّدة. كما بات العمّال يتمتعون بأمان وظيفي أفضل، نظرًا لحصول الشركات على فرص أكبر للبقاء في السوق الأوسع، إضافة لسياسات التوظيف المتقاربة.
ساهم كل ذلك في زيادة الدخل بشكل كبير في دول الاتحاد الأوروبي، وتقليص الفجوة مع الولايات المتحدة خلال العقود الماضية.
بالطبع أدت السوق الأكبر لاختفاء بعض الشركات ذات القدرات التنافسية الضعيفة مثل مصنّعي السيارات بأوروبا الشرقية المستندين للإرث السوفييتي، ولكن هذا قابله تقديم دعم للاقتصادات الأضعف مكّنها من تلقي استثمارات للاستفادة من ميزتها التنافسية الرئيسية وهي رخص التكاليف.
الحواجز المختلفة بين الأسواق العربية مُضرّة لكافة الشركات العربية بلا استثناء
والنتيجة أنه على سبيل المثال، بينما فقدت إسبانيا الملكية الوطنية لشركة "سيات" للسيارات، فإنها تحوّلت بعد بيعها لـ"فولكس فاغن" الألمانية العملاقة إلى شركة ناجحة وأصبحت إسبانيا نفسها ثاني أكبر منتج للسيارات بأوروبا، بعد ألمانيا ومتفوّقة على فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وتكرر الحال مع جمهورية التشيك التي تحوّلت إلى موطن صناعة السيارات المفضّل بأوروبا، وتمكنت هاتان الدولتان ليس فقط من جذب استثمارات شركات السيارات الأوروبية بل أيضًا الكورية واليابانية التي تتهافت على التصنيع في هذين البلدين للاستفادة من عضويتهما بالاتحاد الأوروبي.
وغني عن القول إنّ إحدى أكبر مميّزات المعجزة الاقتصادية الصينية هي السوق الضخمة التي ساعدت الشركات الصينية على الإنتاج الكمّي الكبير وبالتالي خفض التكاليف والتفوّق في العديد من الصناعات بل واحتكار بعض أجزاء سلاسل التوريد العالمية.
واليوم تسعى دولة مثل الهند للسير على خطى النموذج الصيني في الاستفادة من الإنتاج الكمّي الضخم لتوسيع صناعاتها واختراق الأسواق الدولية.
عند النظر لحجم اقتصادات الدول العربية، سنجد أنّ أغلبها يجعل من الصعب على شركات التصنيع المحلية الاعتماد على أي منها وحده في ظل توجّه الصناعة العالمية للاعتماد على اقتصادات الكم الكبير لخفض التكاليف، وبالتالي فإنّ الحواجز المختلفة بين الأسواق العربية هي مُضرّة لكافة الشركات العربية بلا استثناء تقريبًا، بينما لا تكاد تعرقل الشركات الدولية الكبرى غير العربية.
وجود السوق العربية الواحدة مع جدار جمركي موحّد ضرورة لا غنى عنها للاقتصادات والشركات العربية
وفي المقابل، فإنّ توسّع شركات أي دولة عربية داخل أسواق عربية أخرى لا يُمثّل في الأغلب مشكلة تُذكر للشركات العربية المحلية، لأنّ المنافسة الأساسية تأتي من المؤسسات القوية القادمة من الصين وأوروبا وغيرها من الاقتصادات الصناعية الكبيرة، بل على العكس فإنّ المنافسة بين الشركات العربية ستكون مفيدة لأنها بمثابة تدريب غير قاسٍ لمواجهة المنافسين الدوليين.
إنّ وجود السوق العربية الواحدة التي تضمن حريّة تنقّل الأفراد والأموال، مع جدار جمركي موحّد على غرار السوق الأوروبية، وغيرها من سياسات ومؤسسات التكامل الاقتصادي العربي ليس مجرد حلم أيدولوجي للقوميين العرب، بل هو بمثابة ضرورة لا غنى عنها للاقتصادات والشركات العربية، فبدونها في الأغلب لن تستطيع هذه الشركات النجاة أمام المنافسة الدولية، ولن تقوم قيامة الاقتصادات العربية في وقت يقترب فيه نهاية عصر الوفرة النفطية التي كانت الترياق الرئيسي لها خلال العقود الماضية.
(خاص "عروبة 22")