أوروبا: هل من تحوّلات بسبب "البحر الأحمر"؟

تُشكّل التهديدات الأمنية المُتصاعدة في البحر الأحمر أحد أهمّ الهواجس المُقلقة على الصعيد الأوروبي خصوصًا في المجال الاقتصادي الذي له تداعيات سياسية بطبيعة الحال، إذ إنّ لجوء شركات الملاحة الأوروبية إلى طريق "رأس الرجاء الصالح" لم يَحلّ المشكلة ولكن فاقمها على نحوٍ كبيرٍ، إذ إنّ التكلفة الاقتصادية والبيئية العالية لهذا الطريق باتت مثارًا للجدل في مجتمع المال والأعمال الأوروبي، والذي حظيتُ بلقاءاتٍ مع بعض تشكيلاته في رحلةٍ أخيرةٍ إلى هناك، حيث اتّضح أنّ خسائر دولة كألمانيا فقط، على سبيل المثال لا الحصر، بلغت ثلاثة أرباع تريليون دولار سنويًا. كما أشارت البيانات الأخيرة إلى زيادةٍ بنسبة 45% في انبعاثات الكربون من سفن الحاويات الأوروبية في عام 2024 بسبب المسارات الأطول حول "رأس الرجاء الصالح".

أوروبا: هل من تحوّلات بسبب

بالتوازي مع الخسائر الأوروبية، هناك خسائر عربية مرتبطة بتهديد أمن الطاقة، خصوصًا على المستوى الخليجي، وكذلك تراجع موارد "قناة السويس" المُؤثّرة في الاقتصاد المصري والمقدّرة بـ7 مليارات دولار سنويًا.

مؤشرات إلى إمكانيّة تحوّل ولو نسبيّ في أوروبا عن مقاربة الاعتداد بأمن إسرائيل وإهمال أمن الآخرين

إزاء هذا الموقف المُعقّد، ثمّة تباعد تقليدي وربّما تاريخي، بين المُقارَبات المطروحة بشأن إمكانيّة اختراق التهديدات الأمنية في البحر الأحمر، وذلك طبقًا للموقف من ممارسات إسرائيل في الشرق الأوسط وطرح مشروع قيادتها للمنطقة. فبينما تتّجه المقاربات الأوروبية والغربية عمومًا إلى اعتبار أنّ التعامل الأمني كافٍ مع وجود إمكانيّةٍ لردع "الحوثي" بمعزلٍ عن تسوية الملف النووي الإيراني، تتجه المقاربة العربية، وخصوصًا المصرية، إلى أنّ "الحوثي" في البحر الأحمر هو عرضٌ لِمَرَضٍ، ومهما تمّ التعامل مع العرض فهو قابل للتكرار والتمظهر عبر آلياتٍ متعدّدةٍ طالما لم يتمّ التعامل مع المَرَض الذي هو التغوّل الإسرائيلي على شعوب ودول المنطقة، اعتمادًا على وجود الظهير الأميركي الذي يضع أمن إسرائيل في مقدّمة أهدافه، ويتجاهل أمن إقليم الشرق الأوسط كلّه بدوله وشعوبه.

تحت مظلّة هذا التناقض في الرؤى، فإنّ ثمة مؤشرات إلى إمكانيّة تحوّل ولو نسبيّ، في الغرب وفي أوروبا خصوصًا، عن مقاربة الاعتداد بأمن إسرائيل، وإهمال أمن الآخرين على نحوٍ كاملٍ، في ضوء ما أسفرت عنه هذه المقاربة من خسائر شاملة للأوروبيين، خصوصًا على الصعيدَيْن الاستراتيجي والاقتصادي.

في ظنّي، وطبقًا لنتائج مُجمل اللقاءات التي كنتُ جزءًا منها، فإنّ مجتمع المال والأعمال الأوروبي قد يكون مرشّحًا لقيادة نوعٍ جديدٍ من المقاربات إزاء مسألة أمن إسرائيل، قد يكون لها تداعيات وانعكاسات على المستوى السياسي والديبلوماسي الأوروبي على الصعيد المتوسط، وذلك في ضوء عددٍ من العوامل، منها تداعيات الالتزام بأمن إسرائيل فقط على حساب الشعوب والدول الأخرى، حيث تفاقمت الخسائر الاقتصادية لهذا القطاع، وباتت مُقوِّضةً للاقتصادات الأوروبية وقدرتها على النموّ.

فقد تمّ تهديد الأمن الأوروبي في عقر داره بهجماتٍ إرهابيةٍ كان إطارها المرجعي هو رفض الدعم الغربي لإسرائيل على حساب الإنسان الفلسطيني، وممارسة إسرائيل الاجتياحات العسكرية لدولٍ أخرى بمزاعم اجتثاث "محور المقاومة والممانعة"، الذي يثبت كلّ يوم أنه يتحوّر ليتخذ أشكالًا جديدةً، ولا يعلن هزيمته، بحيث لم تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها السياسية لا في غزّة على الرّغم من العنف غير المسبوق الذي تمّت ممارسته في القطاع، ولا في الحرب ضدّ إيران التي ما زال نظامها السياسي قائمًا على عكس الأهداف الإسرائيلية المُعلنة.

من المُجدي تنشيط تفاعل مجتمع الأعمال العربي مع الأجيال الأوروبية الجديدة التي تبدو منفتحة على ضرورات السلام

وفي السياق ذاته، لم تحقّق الاستجابة الأوروبية للتهديدات الأمنيّة في البحر الأحمر نتائج مؤثّرة، على الرَّغم من توفير مرافقة مباشرة ودفاع جوي وصاروخي للسفن التجارية العابرة، عبر عملية "أسبيدس"، وكذلك جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية لتوفير التحذيرات اللازمة.

في هذا السياق، بات مطروحًا، ولو على استحياء، ضرورة الالتفات لفكرة أمن منطقة الشرق الأوسط على الصعيد الشامل (أي بدوله وشعوبه) ومعطيات تحقّقه. ومن هذه الزاوية التي من المُحتمل أن يفكر فيها مجتمع "البيزنس" الأوروبي قد يكون ثمّة ضرورة لتشجيع مثل هذه الاتجاهات من الجانب العربي، خصوصًا من الفريق الذي يؤمن بضرورة تدشين "حلّ الدولتَيْن"، ليس فقط إقرارًا لحقّ الفلسطينيين في الحياة، ولكن إنقاذًا لجملةٍ من المصالح الدولية عمومًا، والأوروبية خصوصًا، وتحقيقًا لسلمٍ مطلوبٍ لحماية الاقتصادات من الانهيار.

من بوّابات المصالح ربّما تنتبه أوروبا إلى أنّ مستقبلها على المحكّ بسبب تصاعد التهديدات الأمنية في الشرق الأوسط

وفي تقديرنا، قد يكون من المُجدي بامتياز تنشيط التفاعل من جانب مجتمع الأعمال العربي مع الأجيال الأوروبية الجديدة في القطاع ذاته، والتي تبدو منفتحةً، كما لاحظتُ، على أطروحات ضرورات السلام في الشرق الأوسط عطفًا على معادلات تحترم أمن الجميع من دون تفضيلات، ودعمًا لمسارات حصار نزيف الخسائر الاقتصادية الأوروبية، التي باتت عامل ضغطٍ وتهديدٍ للاقتصادات الأوروبية.

أخيرًا، من بوّابات المصالح، ربّما قد تجتاز أوروبا معضلة التركيز على الأمن الإسرائيلي دون غيره، وتنتبه إلى أنّ مستقبلها على المحكّ بسبب تصاعد التهديدات الأمنية في الشرق الأوسط بممرّه الأهم "البحر الأحمر".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن