التكنولوجيا ليست بمثابة مستجدّات تقنية خام، سرعان ما يطالها التقادم ويتمّ التبرّم عنها. إنّها حمّالة تحوّلات مستدامة وتراكمات عميقة، يطاول مدّها ومداها مختلف أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وما سواها.
لا يمكن الحديث عن مجتمع للمعرفة في غياب التكنولوجيا
وعلى هذا الأساس، فإنّ التكنولوجيا إنّما يجب أن تُقارَب وتُساءَل في مدى قدرتها وقابليّتها للتعامل مع الإشكاليّات الكبرى الطارئة:
- الإشكاليّة الأولى ومفادها أنّ التكنولوجيا، لا سيما التكنولوجيا الجديدة المتمحورة حول المعطيات الضخمة وأدوات الذكاء الاصطناعي، قد وفّرت للأفراد كما للجماعات ولا تزال، أحجامًا ضخمةً من المعطيات والبيانات، لا يمكن الحديث عن مجتمعٍ للمعلومات أو للمعرفة في غيابها، أو في عدم توفّرها بكثافة.
التكنولوجيا أثّرت هنا وبقوة، في طرق إنتاج وتوزيع المعلومة والمعرفة داخل المجتمع، لكنّها أعادت أيضًا تشكيل أنماط إنتاج وتلقّي وتقاسم المعلومة والمعرفة إيّاها، في الزمن والمكان. وهو ما لم يكن مُتاحًا من ذي قبل، أي زمن الرأسماليّة الصناعية المبنية على منظومات الإنتاج المادي الخالص.
تيّارات المعلومات والبيانات والمعطيات باتت تجرفنا دونما أن تكون لدينا القدرة على الردّ
- الإشكاليّة الثانية تكمن في خضوع مفهوم "المعنى" ذاته للآنيّة وللسرعة، وتراجع مبدأ التأنّي في التحليل، أمام هذا الزّخم الهائل من المعطيات والبيانات والمعلومات. علاقة المعنى بالزّمن قد طاولها التغيّر هنا، لا سيما في عصرٍ تسارعت فيه وتيرة المستجدّات والتطبيقات التكنولوجية الجديدة. ولعلّ أحد معالم هذا التغيّر، إنّما الانتقال التدريجي من الممارسات القارّة والثابتة، التي كانت ملازمةً للباحثين عن المعنى، إلى الممارسات المتحرّكة والجوّالة، التي باتت تتعامل مع المعنى في كونه معطًى جاريًا، لا يستحقّ التوقف، فما بالك التأمل والتفكير.
إنّ التكنولوجيا تجعلنا مرتبطين باستمرار و"طول الوقت"، سواء من خلال شبكة الإنترنت واسعة الانتشار، أو عبر الهواتف الجوّالة ذات الجماهيرية الكبرى، أو من خلال شاشات التلفزيون التي تسقينا بسيلٍ غير مسبوقٍ من المعلومات والبيانات، آناء الليل وأطراف النهار.
يبدو الأمر هنا كما لو أنّ المرء بات في وضعيةٍ تابعةٍ حقًّا، حيث تيّارات المعلومات والبيانات والمعطيات هي التي باتت تجذبنا وتجرفنا، دونما أن تكون لدينا القدرة على الردّ. ويبدو أنّ سلوك ردّ الفعل قد بات هو المُهيمن، أمام سلوك التفكير المتّزن، العقلاني والمرتكز على ضرورة "وضع المسافة" مع الوقائع والأحداث التي تنزل علينا في أشكالٍ خام، غير مهيكلة، غير متناسقة، ولا تساعد المرء على وضعها في السياق العام المُحيل إلى المعنى والحكمة.
ويبدو أنّ هوس السرعة والركض خلف الجديد المستجدّ، قد أفقدنا القدرة على التفكير الهادئ، ومَلَكة القراءة المتأنّية، والقدرة على الإمساك بالمعنى في شكله ومضمونه الحقيقيين.
الحدود بين العالمَين الواقعي والافتراضي لا تصمد كثيرًا عند وضعها على محكّ الممارسة الاجتماعية
- الإشكاليّة الثالثة ترتبط بطبيعة العلاقة التي نسجتها التكنولوجيا الجديدة مع المكان، ومع الواقع على وجه التحديد، ليس فقط كمجال ماديّ ثابت وملموس، بل أيضًا كتمثّلات وكفضاء متموّج.
لقد أفرزت التكنولوجيا الجديدة عالمًا جديدًا (العالم الافتراضي) لا يشتغل باستقلاليةٍ تامّةٍ عن العالم الواقعي، ولا هو صورته المادية حتى، لكنه يتقاطع معه ويعكسه في شكله وفي تجلّياته.
بيد أنّ الحدود بين العالمَيْن، الواقعي والافتراضي، لا تصمد كثيرًا عند وضعها على محكّ الممارسة الاجتماعية، إذ إنّ الممارسة إيّاها تتجاوز الاستخدامات، وهي التي من شأنها التأشير على طبيعة الارتباط بين هذَيْن العالمَيْن، في تقاطعهما كما في تمايزهما.
التكنولوجيا تقوّي العلاقات الاجتماعية وتطرح في الآن نفسه إشكاليّة الهوية والخصوصية
- أمّا الإشكاليّة الرابعة فتكمن في التساؤل عن جوهر وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي من المفروض أن تترتّب عن الممارسة التي تخضع لها التكنولوجيا في الزمن والمكان.
فإذا كان من شأن هذه التكنولوجيا أن تقوّي العلاقات الاجتماعية، فإنّها تطرح في الآن نفسه، إشكاليّة الهوية والخصوصية، لا سيما عندما يُحيل منطق الفضاء الافتراضي إلى المعطيات الخاصّة وإلى خصوصيّات الأفراد والجماعات.
من المُجحف هنا مُساءلة المحمول. المفروض أن نسائل الحامل، شبكات وفاعلين، عن طبيعة الاستخدام التي تتعرّض لها المعطيات إيّاها على أيديهم، أو بترتيبٍ مسبقٍ من لدنهم.
(خاص "عروبة 22")