عملية الترحيل الأخيرة تشبه غيرها من عمليات الترحيل السابقة، وخلاصتها أنّ دوريات الشرطة التركية المنتشرة في مفارق الطرق تحتجز سوريين، أغلبهم من الشباب ممن ليس لديهم أوراق رسمية بينها بطاقة الإقامة (الكملك) وإذن العمل، وتشمل الذين لا تتطابق معلوماتهم مع واقع الحال، أو أنهم لا يحملون أوراقهم الرسمية لسبب ما، كما تحتجز الدوريات سوريين من أماكن العمل والمحال التجارية ومن بيوت يجري التدقيق في أوضاع من فيها، ويتمّ جمع من جرى احتجازهم في مركز للشرطة، يُجبَر فيه المحتجزون بمن فيهم الذين لا يتقنون التركية على توقيع ورقة مغادرة طوعية، قبل أن يتمّ ترحيلهم إلى الشمال السوري دون أن يُسمح لهم الاتصال بأهاليهم أو أي طرف كان.
السبب المعلن لعمليات الترحيل هو مخالفة أصحابها للقانون والتعليمات الإدارية، وهذا السبب يتناقض مع ما يقوله الأتراك عن الترحيل بوصفه مغادرة طوعية في إطار خطة كان أعلنها الرئيس رجب طيب اردوغان في سياق حملته الانتخابية لفترة رئاسية ثالثة، فاز بها في أيار/مايو الماضي، وتضمنت إعادة مليون ونصف مليون سوري إلى بلدهم.
النزعات والممارسات العنصرية ضدّ السوريين تزايدت في تركيا في السنوات الأخيرة
عمليات الترحيل معقّدة في مجرياتها ونتائجها، وهذه مشكلة كبيرة. إذ إنّ أغلبها غير قانوني، وتتمّ بصورة عشوائية، وتصيب أيًا كان، وقد تكون عدوانية، ومن الصعب التراجع عنها، ومعالجة آثارها بشكل طبيعي، وغالبًا ما تشكّل نقطة تحوّل في حياة أسرة جاهدت كثيرًا للوصول إلى الحدّ القائم من الاستقرار، وقد تلحق ضررًا بالغًا بحياة الشخص المُرحّل، أو بأشخاص من حوله، وتدمّر حياتهم، فهناك عائلات من السوريين اكتشفت ترحيل رجال ونساء وأطفال منها وهم في الطريق إلى العمل أو البيت أو في مشوار طارئ لشراء دواء أو ربطة خبز، وثمة قصص مأساوية كثيرة، تروى في تجارب مرّة، بينها أنّ رجلًا غابت زوجته ثلاثة أيام، قبل أن يكتشف أنه جرى ترحيلها رسميًا إلى إدلب في إحدى عمليات الترحيل، بينما كان يبحث عنها. وفي عملية أخرى جرى ترحيل أب خرج لشراء دواء لولده القاصر، وبالنتيجة ترك الولد وحيدًا في اسطنبول.
وعمليات الترحيل، تتجاوز في مجرياتها ونتائجها الأشخاص والأسر في اسطنبول إلى المناطق الأخرى، وتترك أثرها على السوريين في تركيا الذين يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين ونصف مليون، وتجعلهم محاطين بالخوف من فكرة الترحيل أو الوقوع في شباكها، مما يولّد أحاسيس الإحباط واليأس في أوساط السوريين عامة، بخاصة عندما تُضاف إلى مثيلاتها من أحاسيس ناجمة عن النزعات والممارسات العنصرية، التي تزايدت في تركيا في السنوات الأخيرة، وأصابت السوريين بخسائر بشرية ومادية ونفسية، كسرت حدّ الأمان الذي سعى إليه أغلب السوريين الذين وفدوا إلى تركيا، وأسّسوا فيها حياةً جديدةً ولو مؤقتة، حيث تعلّموا اللغة واكتسبوا خبرات ومعارف واشتغلوا بجدية وأمانة، ريثما يعودون إلى بلدهم وبيوتهم في أيّ حلّ يتمّ للصراع في سوريا.
"جوّ العداء" سيكون له انعكاسات سلبية على العلاقات المستقبلية بين السوريين والأتراك
ومما لا شك فيه، أنّ خوف السوريين من عمليات الترحيل ومن العنصرية بمجرياتهما ونتائجهما، يراكم غضبًا، يحوّل ما ترسّخ من علاقات تقارب وتفاعل مع الأتراك في السنوات الماضية إلى جوّ من العداء، وهو أمر سيكون له انعكاسات سلبية راهنة وعلى العلاقات المستقبلية بين السوريين والأتراك، التي لا شكّ أنها ضرورة إيجابية مشتركة للجانبين.
الأتراك بحاجة إلى وقفة وتدقيق في واقع ما يجري والذهاب إلى سياسات تليق بعلاقات الجوار وأقلّها محكومة بالقوانين والمنطق، والطرفان التركي والسوري أمامهم عمل مستقبلي مشترك في مهام كثيرة، منها مهمتين، الأولى مواجهة ما خلّفه الصراع في سوريا وحولها من سلبيات على كل منهما، والثاني تطوير علاقات حسن الجوار والتعاون من أجل حلّ المشاكل العالقة بين الجانبين، وتطوير المصالح المشتركة بدل العودة إلى علاقات الاختلاف والصراع التي سادت بين البلدين في المئة عام الماضية، والتي عملت تركيا لتجاوزها في فترات سابقة. وفي سياق ما تقدّم، فإنّ السوريين سوف يحتاجون إلى قدرات وخبرات جيرانهم في الشمال للمشاركة في إعادة بناء سوريا، والأتراك سوف يحتاجون لسوريا لتكون بوابة طريقهم وتواصلهم مع البلدان العربية.
إنّ السؤال الذي يطرحه واقع ما يحيط بوجود السوريين في تركيا، ولا سيما في موضوعي العنصرية والترحيل، ينتظر جوابًا عمليًا، خصوصًا من الأتراك الذين يظهرون في المرحلة الراهنة باعتبارهم الأقوى، والأكثر تأثيراً؟!
(خاص "عروبة 22")