ثقافة

ثقافة المواطن بين الحرمان والتمكين

يمكن تقييم دور المواطن في شتى دوائر حركته السياسية، المدنية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية؛ في ضوء ما يتحصل عليه من ثقافة في إطار عملية تراكمية تُشكّل شخصيته، ومن ثم توجه تحيّزاته، وتحدد اختياراته، وتدفعه للمشاركة الفاعلة واتخاذ المواقف اللازمة، وبالأخير حصاد ثمار هذه العملية بما ينعكس إيجابًا على الخير العام للوطن والمواطنين.

ثقافة المواطن بين الحرمان والتمكين

غني عن البيان، بأنّ المقصود بهذه الثقافة؛ هو تلك الثقافة التي لا تتوقف عند حد توفير المعلومات أو المعرفة في بُعدها الموسوعي، وكيف يمكن تناولها وتحليلها ما يستدعي تعزيزها بالمنهج العلمي الذي يعين المواطن على الملاحظة، والتخيّل، والتربيط، والاستنتاج، والابتكار.

ويتفق، على المقولة الاستهلالية، الدارسون للعلاقة بين الثقافة من منظور المواطنة على أنه بقدر ما يتحصل المواطن على الثقافة - باعتبارها حقًا لا مساومة عليه - ويراكمها كرأسمال؛ بقدر ما يتمكن المواطن من التعبير عن نفسه، وعن إبراز المنظومة الرمزية الخاصة بكل خصوصية مواطنية تصب في المركب الثقافي المواطني العام. ما يمكنه أن يكون فاعلًا في المجال العام؛ وبالأخير تجسيد المواطنة في بُعدها الثقافي.

التنمية المستدامة والتقدّم مرهونان بالتمكين الثقافي بينما الحرمان الثقافي يؤدي إلى "العجز التنموي والتخلّف"

وعلى النقيض تمامًا، فإنّ غياب تعرّض المواطن لعناصر مصادر التكوين الثقافي سيترتب عليه افتقاد المواطن للمقوّمات الثقافية الضرورية التي من شأنها دفع المواطن على التعاطي مع الواقع وممارسة دوره في تغييره من أجل التقدم. أخذًا في الاعتبار أنه لا تقدّم إلا بالاستقواء بالمعرفة، والثقافة، والفنون، والعلوم.

في هذا الاتجاه، أشار عالم الاجتماع البريطاني الكبير "برايان تيرنر" إلى اعتبار "المواطنة الثقافية، حقًا اجتماعيًا"؛ دونه لا يمكن للمواطن أن يتفاعل مع الواقع، كذلك يوفر له القدرة على التساؤل الدائم، والبحث عما وراء الظواهر، والمساهمة الفاعلة في تجديد الواقع.

بلغة أخرى، إنّ توفر الثقافة كحق للمواطن تؤمن له مساحات التمكين، والإبداع من جهة، وبراحات التعبير، والتفاعل من جهة أخرى. ما ينتج عنه، بالأخير، ألا يعود المواطن منفصلًا عن الواقع - وهو في هذه الحالة لا يعد مواطنًا أصلًا - أو متعاليًا على الواقع، أو ما يمكن أن نطلق عليه المثقف الجنتلمان على النمط "البيجماليوني" أو المثقف الأرستقراطي "هنري هيجنز" بطل رائعة جورج برناردشو (1856 - 1950).

انطلاقًا مما سبق، ومواكبةً للاهتمام المتنامي في كثير من السياقات لدراسة هل المواطن يتعرّض للحرمان الثقافي؛ - وإلى أي مدى - أو يتسنى له التمكين الثقافي؛ حيث إنّ التنمية المستدامة والتقدّم مرهونان - بالأساس - بالتمكين الثقافي، بينما الحرمان الثقافي يؤدي يقينًا إلى "العجز التنموي والتخلّف"، وفي هذا المقام، يؤكد الفيلسوف الإيطالي، وأشهر من تحدث عن الثقافة والمثقف، "أنطونيو جرامشي" (1891 - 1937) على أهمية الثقافة كمصدر للوعي من ناحية، وكقوة دافعة للفعل: المجتمعي، والإبداعي، والانتاجي من ناحية أخرى.

مما سبق ربط كثيرون بين الحيوية المواطنية الفاعلة حيال المجتمع وبُناه المختلفة، والآفاق الإبداعية المتنوعة، والعمليات الإنتاجية المتعددة، وبين العملية الثقافية ذات الطابع التمكيني القادرة على؛ أولًا: الدفاع عن الثقافة في ذاتها، وثانيًا: تراكمها المادي - المعنوي الإبداعي كمركب حضاري ملهم وداعم للتقدّم، وثالثًا: المقاومة للحرمان الثقافي الكلي، أو الجزئي، ورابعًا: الرافضة للتثقيف الموجه أو الترويضي. وكل ما يحول دون التحوّل والتقدّم.

في هذا السياق، نبه كثير من الباحثين في ضوء دراسة عديد من الخبرات المجتمعية المختلفة، إلى خطورة الثقافة ذات السمت الترفي: الكرنفالية والاحتفالية والسطحية والاجترارية، التي توحي بأنّ هناك مشروعًا ثقافيًا وفاعلية ثقافية في المجتمع من جانب، لأنها ستعمد - بوعي أو بغير وعي - إلى حجب حقيقة أنّ هناك غيابًا للمشروع سيترتب عليه حرمانًا ثقافيًا فعليًا وحقيقيًا - سواء كان ذلك مقصودًا أو غير مقصود - يحول دون ممارسة المواطن لمواطنيته من جانب آخر. ومكمن الخطورة إنها، وبمرور الوقت، تؤدي إلى "تحطيم العقل الإنساني"، إذا ما استعرنا تعبير الفيلسوف والناقد المجري "جورج لوكاش" (1885 - 1971).

الخلاصة؛ أنه وفي كل الأحوال، يؤدي الحرمان الثقافي الكلي أو الجزئي للمواطن/المواطنين، كذلك الغياب التام للمشروع الثقافي، أو الحضور المختزل له في بُعده التجاري والاستهلاكي إلى ما يُعرف بالتجرد (النزع) الثقافي؛ الذي يؤدي - بالضرورة - إلى وأد المعرفة، والفكر، والتاريخ، والجمال، والوعي، والإبداع. فلا يبقى حسب الشاعر الكبير "أدونيس": "إلا ركام أشياء - نباتًا أو جمادًا أو هياكل لها شكل إنسان".

هناك ضرورة إلى مراجعة مشروعاتنا الثقافية العربية الراهنة

كما يدفع - يقينًا - إلى فرض الحرمان الثقافي - القسري - للمواطن/للمواطنين، وتجريد الأوطان من: تراثها، وزخمها الثقافي الذي راكمته تاريخيًا، وإبداعاتها بتجلياتها المختلفة: العلمية، والفنية، والأدبية، وأفضل ما في الشخصية الحضارية من سمات خاصة تلك التي ساهمت باستمرار روحها الوطنية، والقدرة المرنة على الانفتاح على جديد العالم من أفكار وإبداعات في شتى المجالات.

وبعد، يبدو لي أنّ هناك ضرورة إلى مراجعة مشروعاتنا الثقافية العربية الراهنة، إن ومتى توفرت، ودراسة مدى قدرتها على: أولًا: تحقيق تكافؤ الفرص الثقافية للمواطنين على اختلافاتهم الطبقية والجنسية والجيلية والإثنية، وثانيًا: دعم المواطنين للتعبير عن هوياتهم الذاتية، وثالثًا: تعزيز التحرر من "الهيمنات" السلطوية والنخبوية (الجنتلمانية)، وبالأخير نضمن النصرة لثقافة مواطنية تمكينية فاعلة ومبدعة ومتجددة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن