بصمات

الاستقرار السياسي.. و"فوبيا" التغيير في الوطن العربي

قد يُشكّل مصطلح الاستقرار السياسي بشكل عام طابعًا إيجابيًا لأول وهلة، لأنّ المصطلح يعني أنّنا بحالة سياسية مستقرة، وعادة الاستقرار في أي مجال يُحيل على حالة إيجابية، ما دام أنّه لم ينزل لمرتبة السلب أو للصف المعاكس لما هو عليه، وقد يكون هذا الاستقرار متوافقًا عليه بناءً على توجه مجتمعي ديمقراطي، أو قد يكون مرحلة تتويجية لسياق سابق غير مستقر، ممّا يجعل المرحلة المستقرة تحمل بُعدًا قيميًا تفضيليًا عمّا سبقها.

الاستقرار السياسي.. و

هذا الاستقرار السياسي، قد يُمثله البُعد الوطني أو الخارجي أو هما معًا، بل قد نعتبر ما تعيشه اليوم بعض الدول العربية من قبيل لبنان، السودان، اليمن، فلسطين، باعتبارها مرحلة ما قبل تحقيق الاستقرار السياسي، فيصير هذا الأخير مطمحًا مستقبليًا مرغوبًا ومأمولًا بشدة، لكن بالمقابل قد يطرح طابعًا إشكاليًا عندما يصير عند بعض الدول العربية ذريعة لاستدامة حقل تجربة زمني معين.

تم رفع الاستقرار السياسي الداخلي لمصاف الأهداف الوجودية للدولة الوطنية في الوطن العربي

من غير المستبعد أن تكون الهشاشة السياسية لجل الدول العربية، هي ما تجعلها تعيش على وقع التخوف من اللااستقرار السياسي، لهذا ترصد كامل جهودها الوطنية لتحقيق الاستقرار ثم محاولة استدامته. وتمتد هذه الهشاشة من الأسس البنائية للدولة الوطنية، وقد تمّ ربط مفهوم الدولة الوطنية بالاستقرار السياسي الداخلي، لهذا تم رفع هذا الأخير لمصاف الأهداف الوجودية للدولة الوطنية في الوطن العربي. فكيف يمكن تفسير ذلك؟

تعيش أغلب الأنظمة السياسية العربية منذ نشوء مفهوم الدولة بعد تحقيق الاستقلال، على وقع إكراه الظرفية الزمنية المحدّدة في تحقيق الاستقرار السياسي الوطني، ممّا يقدّم صورة نموذجية لنمط سياسي ينتعش على القيادة الفوقية، فالتحجج بالظرفية الزمنية التي لا تتسع للنقاش العمومي السياسي بشكل صحي، والتي تستوجب بالمقابل التوافق الوطني على الإبقاء على الوضع الحالي بما هو أفضل الممكنات، وهذا هو الطابع الغالب على بعض الأنظمة السياسية العربية خصوصًا أمام التوتر الذي تعيشه المنطقة العربية على وقع أحداث فلسطين.

هذا المعطى يقتضي تفكيك النمط اللساني للمعجم السياسي العربي، وأول ما يمكن رصده هو عملية الدمج أو الجمع بشكل هجين ما بين المطلب الاستعجالي، وهو الاصطلاح الذي يفيد نوعًا من إبطال كل أنواع الاحتجاج أو الرفض المعلن، وبالتالي تغييب مطلب التغيير، ومصطلح الاستقرار الذي يرمز لوضع متوازن أو متوافق عليه، يقف عند نقطة تقترب للايجاب أكثر منها للسلب، أي الابقاء على وضع مُعيّن يستجيب بشكل ما للطموح الوطني.

إنّ عملية الجمع ما بين المصطلحين، تُحيلنا بشكل ما على مميزات التجربة الزمنية الراهنية للوضع السياسي العربي، التي يمكن رصدها في النقط التالية:

- وضع سياسي عربي يتسم بطابع الديمومة الزمنية لحقل التجربة التاريخية نفسه، فرغم التغييرات التي يتم الترويج لها، إلّا أنّها تظل تغييرات سطحية لا تمس جوهر نمط التوجه السياسي العام، إذ نصبح أمام حقل تجربة زمنية لا تسعى لتحقيق التغيير خارج ما هو كائن، بقدر ما تسعى لاستدامة الاستقرار السياسي.

- وضع يعمل بشكل تلقائي (أتوماتيكي) على فرملة التوجه النقدي السياسي لراهن هذه التجربة السياسية، وهي الفرملة التي صارت بشكل ما مُمَنهجة ومُوجّهة وتُرصَدُ لها ترسانة مادية وبشرية مهمّة لتحقيق استدامتها أطول وقت ممكن.

المقاربة الأمنية تغيّب باقي الاختيارات من الأجندة السياسية ولا تسمح ببناء دولة وطنية حداثية 

- تجنّب كل التوجهات القومية أو الخارجية التي قد تهدد الاستقرار الوطني أو قد لا تتلاءم مع منطق استدامة الاستقرار السياسي، وقد تدخل المقاومة الفلسطينية بهذا الباب، خصوصًا بالنسبة لدول الجوار كمصر، لبنان، سوريا، اليمن، ممّا يحد من فاعلية التوجّه القومي والدولي لهذه الدول.

- اعتبار التجربة الزمنية لأغلب الأنظمة السياسية العربية كأفضل الممكنات، التي تجنبنا ويلات اللاستقرار، مما يُدخلنا في معجم سياسي مثنوي يتناول الأفق السياسي بمقاربة مانوية: استقرار/ لا استقرار، حيث يتم حصر كل الأشكال التي لا تساير النمط السياسي في الدول العربية كتوجهات فوضوية أو متطرّفة تسعى لهدم هذه التجربة الزمنية التي تعتبر بمقياس الاستقرار هي أفضل مراحل الدولة الوطنية راهنًا.

والحال أنّ هذه المقاربة الأمنية قد تغيّب باقي الاختيارات من الأجندة السياسية، رغم إمكانية تحقق باقي الإمكانات، بعيدًا عن المقاربة المثنوية التي ترادف ما بين وجود هذه الاختيارات وكسر هاجس الاستقرار السياسي الوطني، لعدّة اعتبارات، أقلها أنّ هذه المقاربة لا تسمح ببناء دولة وطنية حداثية تعمل على تبني فعلي لأسُس الدولة الحديثة، بقدر ما تعمل على استدامة حقل زمني معيّن مُحرّكه الأساس "فوبيا" التغيير أو هاجس اللااستقرار السياسي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن