بصمات

النقد الذاتي زمن الذلّ والإهانة

إذا كانت هزيمة يونيو/حزيران 1967 قد أثمرت بعض المراجعات الفكرية في محاولة البحث عن الأسباب العميقة لتلك "النكسة"، فإنّ تلك المراجعات لم تفضِ إلى نتائج ذات بال سواء في مستوى تطوير الثقافة السياسية أو تجديد الثقافة العربية عمومًا رغم قيمة تلك الجهود الفكرية والبحثية التي بذلها عدد من رموز الفكر العربي أمثال صادق جلال العظم وياسين الحافظ ومهدي عامل والجابري والعروي وغيرهم.

النقد الذاتي زمن الذلّ والإهانة

وبقدر ما يمكن تفسير محدودية تأثير تلك "الموجة النقدية" وانحسار امتدادها إلى عوامل متنوّعة لا سبيل إلى الإحاطة بجلّها في هذا السياق، فإنّه من المهمّ الإشارة إلى أنّ هامشية دور النخبة الفكرية في صياغة السياسات العامة بالعالم العربي، ولا مبالاة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بدور الثقافة والفكر في خلق نهضة حضارية حقيقية، والنظرة الاستعلائية للسلطة تجاه المجتمع من العوامل الأساسية التي حدّدت طبيعة المآلات التي انتهت إليها تلك النزعة النقدية، فضلًا عن العوامل المتّصلة بنوعية تلك المراجعات النقدية التي ركّزت على العوامل البنيوية العميقة المتّصلة بطبيعة النسق الثقافي السائد منذ قرون، مقابل تهميش دور بقية العوامل المباشرة التي كان لها أثر آني حاسم في مخرجات الأوضاع ومستجدّاتها مثل دور الأنظمة السياسية القائمة في انتهاج خيارات خاطئة داخليًا وخارجيًا، و"إعادة إنتاج" المنظومات القائمة للمحافظة على التوازنات الموروثة.

الحرب الحالية على غزّة لا تقلّ خطورة عن حرب الخليج الثانية ضد العراق التي كانت فعلًا "حربًا حضارية"

مؤكد أنّ العالم العربي يعيش اليوم مرحلة من أحلك مراحل تاريخه الحديث والمعاصر، إذ بلغت حالة الذل والهوان درجة لم يعد فيها العرب قادرين حتّى على تحقيق أدنى أشكال التضامن الإنساني في ما بينهم. وقد عكست حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة هذه الوضعية المأساوية.

تطرح حالة الذلّ أو الإهانة التي تعيشها الشعوب العربية أسئلة حارقة متّصلة بالأسباب التي تجعل نظرية المؤامرة لا تنجح نجاحًا منقطع النظير إلا بالمنطقة العربية. وهل أنّ القابلية للإهانة قدرًا عربيًا حتميًا لا فكاك منه؟ وما الذي يغذّي استمرار حالة التشرذم والتيه الحضاري التي باتت تهدّد استمرار الوجود العربي؟ ألم تكفِ المحن والرزايا التي مرّت بها المنطقة لتدرك النخب العربية حجم الهوّة السحيقة التي انزلقت إليها الدول العربية؟.

ليست الحرب الحالية على غزّة حربًا عادية، وإنّما هي حرب لا تقلّ خطورة عن حرب الخليج الثانية ضد العراق سنة 1991 التي كانت فعلًا "حربًا حضارية" على حدّ توصيف عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، وأفضت إلى نظام دولي جديد. إذ يبدو من الجلي أنّ الحرب على غزّة تتجاوز التخلّص من حركة المقاومة الإسلامية إلى إعادة رسم جديد للخارطة الجيواستراتيجية للمنطقة ضمن التصوّر الصهيوني الشائع لإسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى البحر. ولعلّ تصريحات المرشّح الرئاسي الجمهوري الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة كانت الأكثر صراحًة وتعبيرًا عن هذا التوجّه الاستراتيجي الأمريكي الغربي.

ولمّا كان حجم الإهانة الراهنة ووظيفتها يستهدف المحو الوجودي والتاريخي بطريقة لم يعد فيها شكّ بأنّ العالم العربي أمام خيارين لا ثالث لهما: "يكون أو لا يكون"، فإنّ استئناف عملية النقد الذاتي تعدّ خيارًا مصيريًا واستراتيجيًا لا غنى عنه. وبقدر ما لا يمكن أن يغفل ذلك النقد الأعطاب البنيوية المغذّية لدائرة التخلّف والذلّ والإهانة والتبعية المستمرّة بشكل "مُمنهج" منذ قرون، فإنّه حريّ بالنخب الفكرية وما تبقّى من "المثقفين العضويين" التركيز على دور الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين المباشرين في ما آلت إليها مجريات الأوضاع. فلعلّ ذلك قد يساعد على تجسير الفجوة التي تفصل بين النخب الفكرية والسياسية، ويقصي العوائق التي تحول دون إسهامها في تدبير الشأن العام وصياغة سياسات عامّة قائمة على التخطيط العلمي والاستراتيجي بدل الارتجالية والعبثية السائدة حاليًا في عموم الدول العربية.

الأمّة العربية أحوج ما تكون إلى هبّة تاريخية وحضارية حاسمة تفرض الخروج من حالة "الانسداد التاريخي"

إنّ النقد الذاتي الذي لا يؤثّر تأثيرًا بيّنًا في سياسات السلطة وسلوكيات المجتمع لا يعوّل عليه. إذ لا يعدو في هذه الحالة أن يكون "ترفًا أكاديميًا" منشغلًا باستعراض مختلف النظريات والمناهج المعرفية فيركّز على إشكاليات نخبوية تفضي غالبًا إلى الهدم بدل البناء وإعادة البناء في وقت أحوج ما تكون فيه الأمّة العربية إلى هبّة تاريخية وحضارية حاسمة تفرض الخروج من حالة "الانسداد التاريخي" إلى آفاق الإسهام في الحضارة المعاصرة بكرامة ونديّة كاملتين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن