بصمات

المواطنة والاعتقادات الجماعية

على عكس دول غرب أفريقيا المسلمة التي قننت دستوريًا النظام العلماني على الطريقة الفرنسية، ذهبت جل الدول الإسلامية العربية والآسيوية إلى اعتماد الإسلام دينًا للدولة ومصدرًا وحيدًا أو أساسيًا للتشريع. ولقد انفرد المغرب بالصياغة الدستورية لنظام إمارة المؤمنين مراعاةً لخصوصيات تاريخية ومجتمعية معروفة مع استيعاب المنظومة الليبرالية في طبيعة النظام السياسي.

المواطنة والاعتقادات الجماعية

لن ندخل في النقاش المتشعب حول العلاقة المعقّدة بين الديمقراطية بصفتها نسقًا قائمًا على الحرية والحياد القيمي والعقدي للمجال العمومي ومأسسة الدين في الهياكل الدستورية للدولة. والحال أنّ العالم الليبرالي الغربي ينقسم إلى بلدان قننت الكنيسة الرسمية للدولة (مثل بريطانيا واليونان وايسلندا ومالطا والدنمارك...) على الرغم من تراجع الممارسة الدينية فيها، في حين اعتمدت بلدان أخرى نظام الفصل بين الدين والدولة وإن كانت المؤسسة الدينية حاضرة بقوة في المجتمع الأهلي (كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية).

ليس إذن الإشكال في الصيغة الدستورية للدين في المجال العمومي، ومن ثم فإنّ اعتماد جل الدول الإسلامية ديانة رسمية للدولة مبرر من أوجه عديدة. بالإضافة إلى أنّ مأسسة الدين ضرورة للوقوف ضد أدلجته وتحويله بالتالي إلى معول لهدم الاستقرار السياسي والسلم الأهلي، فإنّ البنية العقدية للإسلام نفسها تفرض تنزيله في نظام الاجتماع العام بدلًا من إقصائه إلى الوعي الفردي الضيق.

الدين هو مرتكز الأخلاق والقيم والتقاليد الجماعية المشتركة ولا يمكن أن يكون موضوع تلاعب سياسي أو أيديولوجي

وكما بيّن عالم الأنتربولوجيا الأمريكي طلال أسد يختلف الإسلام عن ديانات الضمير الفردي، بكونه دين جماعة، الانتماء فيه يتم من خلال الأخلاقيات المجتمعية والأعراف المتقاسمة وليس من خلال مضامين الاعتقاد الداخلية.

لا يعني هذا الأمر تكرار العبارة الإخوانية الشهيرة" الإسلام دين ودولة"، وهي مقولة لا أصل لها في التراث السياسي الإسلامي، الذي لا يسمح بتجسيد الدين في بناء سياسي على شكل دولة مطلقة، ما دامت خصائص السمو واللاتناهي من الصفات الإلهية التي لا يمكن للبشر بلوغها. الأمر الذي يحتاج لبيان، هو ما أوضحه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن من تحويل الفكر السياسي الحديث في الغرب الليبرالي تقنيات الوعي ونظام التسيير الكنسي وأدوات الضبط والترويض التي بلورتها اللاهوت إلى مرتكزات للدولة الحديثة في علمانيتها اللادينية. فهي دولة لاهوتية في العمق وإن كانت أقصت الدين من المجال العمومي.

لم يُرد الباحث الأمريكي في الفقه الإسلامي وائل حلاق قول شيء آخر في كتاب" الدولة المستحيلة"، الذي ذهب فيه إلى أنّ مفهوم الحاكمية الإلهية قد حرّف معناه بتحويله إلى قاعدة للشرعية السياسية رغم أنه يعني في العمق استحالة ترجمة السلطة الإلهية المطلقة في بناء سياسي سيادي. بيد أنّ مشكلة حلاق هو أنه حكم بعدم إمكانية تبيئة واستيعاب الدولة الوطنية الحديثة في النسق الأخلاقي والمجتمعي الإسلامي، مع أنّ هذا النموذج هو الأفق الوحيد الضروري للمجتمعات المسلمة وهو البديل الناجع ضد الأيديولوجيات المتطرّفة التي زرعت الشقاق والفتنة في أوطاننا بذريعة دينية واهية.

التقنين المرجعي للدين في مجتمعاتنا هو شرط إبعاد المعتقدات والانتماءات الدينية عن التوظيف والتحريف

ما يتعيّن التنبيه إليه هو أنّ الدين في مجتمعاتنا هو مرتكز الأخلاق والقيم والتقاليد الجماعية المشتركة، من ثم لا يمكن أن يكون موضوع تلاعب سياسي أو أيديولوجي. ومن هنا يظهر لنا أنّ نظام الفصل المؤسسي بين الدين والسياسة الذي حفظ في الغرب السلم الأهلي والديمقراطية الحرة، لا يختلف من حيث النتبجة عن نظام التقنين المرجعي للدين في مجتمعاتنا الذي هو شرط إبعاد المعتقدات والانتماءات الدينية المشتركة عن التوظيف السياسي والتحريف الأيديولوجي.

كان المفكر اللبناني الراحل جورج قرم يقول إنّ المسيحية الشرقية لا تختلف في هذا المنحى عن الإسلام باعتبارها ديانة جماعة وقاعدة انتماء أخلاقي مشترك، ومن هنا فإنّ مسارات التديّن والسياسة في الغرب تختلف عن أوضاعنا الخاصة، وإن كان المبتغى واحدًا وهو استنبات الحريات العامة وتحقيق دولة العدل والمواطنة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن