بصمات

مكتبات العرب.. أكثر من مجرد مخازن كتب!

تنتشر العديد من المكتبات العامة في مدن العرب، لكن تأثيرها في المناخ الثقافي يبدو محدودًا، فثقافة زيارة المكتبة لا تبدو حاضرة في السياق العربي المعاصر، تحل مكانها ثقافة بناء المكتبات الشخصية، لأنّ المكتبات العامة عندنا أصبحت في نظر القائمين عليها وزائريها مجرد مخازن للكتب، لا أماكن لخلق المعرفة.

مكتبات العرب.. أكثر من مجرد مخازن كتب!

لكن بالعودة إلى التجربة التاريخية عندما كان العرب في قلب عملية صناعة ثقافية، نجد أنّ المكتبات كانت أكثر من مجرد مخازن كتب، بل منارات علمية تتخذ من الحفاظ على الكتب لافتة لصناعة معرفية.

الأخبار التي تتعلق بمكتبات بلاد العرب تتحدث بوضوح عن معاهد علم وبحث وترجمة

المنطقة العربية ليست غريبة عن روح المكتبات ففيها نشأت منذ عهود سحيقة أول هذه التجارب العالمية، هنا نستعيد من الذاكرة مكتبة "آشور بانيبال" التي بُنيت في نينوى العراقية في القرن السابع قبل الميلاد، ومكتبة الإسكندرية التي بُنيت في القرن الرابع قبل الميلاد. وفي الفترة العربية الإسلامية قبل العصر الحديث، أصبح وجود المكتبة لافتًا في ظل صناعة ثقافة عربية ذات طابع عالمي وقتذاك، بين ترجمة وانفتاح على الثقافات الأخرى، وإنتاج معرفي في مختلف المناحي العلمية أدى إلى عمليات ترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى.

العديد من الأخبار التي تتعلق بمكتبات بلاد العرب، تتحدث بوضوح عن معاهد علم وبحث وترجمة، لا مجرد مخازن كتب. فـ"بيت الحكمة" الذي أُسّس في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، كان أكبر من كونه مكتبة تضم آلاف الكتب، بل صار بيتًا للعمل والبحث والترجمة خصوصًا من الفلسفة اليونانية، لذا تحوّل إلى قبلة الباحثين من مختلف أنحاء العالم، وقد ظهرت العديد من المكتبات على غرار مكتبة العباسيين الرئيسة، وباتت هذه المكتبات مع الوقت مصانع إنتاج معرفي.

أمر نجده في تأسيس ابن سوار الكاتب البويهي لمكتبتين في البصرة ورامهرمز، وخصص فيهما أماكن لقراءة الكتب ونسخها، فضلًا عن أماكن لإلقاء دروس علم الكلام، بينما حازت "دار العلم" التي أسّسها الوزير البويهي سابور بن أردشير، في حي الكرخ ببغداد، شهرة واسعة لما تحتويه من كتب وإتاحة جو علمي للباحثين، وهو ما تكرر مع مكتبة الأمويين بقرطبة، والتي عُدت واحدة من أكبر مكتبات زمانها، ولم تقتصر على كونها خزانة كتب بل تحوّلت إلى مركز إشعاع ثقافي في مناخ من الحرية المعرفية.

نلاحظ الأمر ذاته في "دار الحكمة" بالقاهرة، والتي تأسّست في عصر الحاكم بأمر الله الفاطمي، إذ أصبحت واحدة من أكبر مخازن الكتب في العالم وقتذاك، لكن الأهم أنه أتيح لكل فرد أن ينسخ ما يشاء من كتبها، فضلًا عن تخصيص أماكن لمن يرغب في قراءة الكتب فيها، لكن الأهم أنه تم تخصيص أماكن لإلقاء الدروس العلمية، لكل من الفقهاء والقراء والفلكيين والنحويين واللغويين والأطباء، مع تخصيص مبالغ مالية من قبل الخليفة الفاطمي لكل الدارسين في هذه المنشأة، فضلًا عن توفير الحبر والأقلام والورق والمحابر لكل من يتردد على المكتبة بالمجان.

وفي العصر المملوكي كانت المكتبات منتشرة في مدن مصر والشام، إذ أُلحقت مكتبة ضخمة بكل مدرسة؛ وهي كانت بمثابة الكليات العلمية وقتها، بهدف إتاحة الفرصة للطلبة للنهل مما تحتويه المكتبات من كتب، بل أنّ "البيمارستان المنصوري" بقلب القاهرة، أُلحقت به مكتبة علمية رفيعة المستوى في المجالات العلمية المعروفة وقتذاك لخدمة الأطباء، وقد تردد عليها العالم الكبير ابن النفيس، وفيها أجرى أبحاثه ودراساته العلمية في مجال الطب.

لا نريد مكتبات ذات شكل رائع تُبنى لتكون نقطة في سجل إنجازات السلطة تتفاخر بها لكن لا يدخلها أحد

هذه النماذج المتنوّعة من أقطار مختلفة وأزمنة متعاقبة، تصلح كمادة للبناء عليها، ففي زمن المعرفة أصبح وجود المكتبة ضرورة، حتى ولو تغيّرت وظيفتها بحكم الطفرة التكنولوجية، فنحن لا نطالب بمخازن كتب أو قاعات اطلاع فقط، بل مساحة لإنتاج المعرفة الحرّة دون قيود ولا تعقيدات، لا نريد مكتبات ذات شكل رائع تُبنى لتكون نقطة في سجل إنجازات السلطة، تتفاخر بها لكن لا يدخلها أحد، بل نريدها مشتبكة مع احتياجات المجتمع الحالية وتعمل على تلبيتها.

استعادة روح المكتبات كمؤسسات منتجة للمعرفة هو ما نحتاجه في هذه اللحظة من تاريخ الأمّة، لحظة تحوّل معرفي وتوفر وسائط معرفية جديدة، ربما يجادل البعض بأنّ مكتبات عامة تحاول أداء هذه المهمة في هذه العاصمة العربية أو تلك، لكن ما نريده هو روح عامة تجعل من زيارة المكتبة ركنًا أساسيًا في الثقافة الجمعية للعرب، أي أن نزور المكتبة ليس فقط لقراءة الكتب، بل للنقاش حول أفكارها، والاستماع لدروس العلم في مناخ من حرية التفكير والبحث، وهي روح أصيلة لنموذج المكتبة العامة في تاريخ العرب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن