قضايا العرب

"البيئة الحاضنة" للإبادة.. من الحرب العظمى إلى غزّة!

القاهرة - شاهر عياد

المشاركة

تمنح الحرب العالمية الأولى مدخلًا مثاليًا لمن يريد سرد قصتها؛ فهذه الحرب التي شارك فيها مقاتلون من جميع أنحاء العالم أطلق شرارتها طالب صربي مهمّش اسمه غافريلو برينسيب عندما أطلق رصاصة على ولي عهد النمسا والمجر في سراييفو. ولكن بعد الانتهاء من هذه القصة الشيّقة، يتطلّب فهم الأسباب الحقيقية للحرب النظر إلى مظالم الأقليات العرقية التي عانت في ظل الإمبراطوريات التي حكمتها، مع خلفية عن تشابك العلاقات الدبلوماسية في أوروبا، والحروب المتفرقة التي سبقت الحرب ومطامع التوسّع التي تلتها.

تقول الجملة المكررة إنّ القارة العجوز كانت تسبح فوق برميل من البارود عشية الحرب العظمى كما سُمِّيت في نهايتها.. شبكة علاقات شديدة التعقيد بين إمبراطوريات تخوض سباق تسلّح قياسي في زمنه، وتطمح إلى ترسيخ قوّتها في أوروبا بل وتنازع بعضها على ما ستتركه الإمبراطورية العثمانية التي كانت في لحظة سقوطها الحر.

في كل الأحوال كان الاغتيال سيرتّب نزاعًا ما بين صربيا وإمبراطورية النمسا والمجر، ولكن أن يمتد هذا النزاع ليصبح حربًا عالميةً داميةً يحتشد فيها المقاتلون من قارات العالم الست للقتال أربع سنوات كاملة، ليس بالأمر الذي يمكننا تحميل برينسيب مسؤوليته.

بإمكاننا في الملخصات التشويقية للمقالات وحلقات اليوتيوب أن نصف هذه الحرب بأنها التي بدأها مراهق صربي وهو يحاول لفت انتباه جماعة اليد السوداء لتقبل انضمامه إليها، لكن لا يؤخذ بهذا الكلام في أي تحليل جاد.

هذا الفهم الذي ينظر به المؤرخون إلى برينسب لا يمنحه من يحمِّلون اليوم فصائل المقاومة المسؤولية عن عملية الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة منذ عشرة أشهر، لأنها أطلقت "طوفان الأقصى" وتركت الفلسطينيين يتلقون العقاب.

مثل اغتيال الأرشيدوق، كان "طوفان الأقصى" سيرتب ثمنًا عسكريًا على من قام به، ولكن أن تظل إسرائيل قادرة لعشرة أشهر على الاستمرار في القيام بما تقوم به من إبادة جماعية متكاملة بالقصف والحصار والتجويع ونشر الأوبئة وجعل القطاع مكانًا لا يصلح للحياة، أمر لا تتحمّل المقاومة مسؤوليته. فحركات التحرّر في الدول المحتلة ليست هي المخوّلة بمنع جيوش الاحتلال من ارتكاب جرائم الإبادة.

بعد حربين عالميتين داميتين أدرك العالم أنّ الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين من الدول التي تهدده مسؤوليةٌ تشاركيةٌ يتحمّلها المجتمع الدولي بأكمله، وحاول ميثاق الأمم المتحدة وغيره من الاتفاقيات، منح المؤسسات والمحاكم الدولية بعض الصلاحيات في التصدي لجرائم الحرب والإبادة الجماعية وغيرها مما يمكن أن ترتكبه الدول بحق مواطنيها أو مواطني الدول التي تحتلها من جرائم.

ولكن لكي تجد هذه الآليات طريقها إلى التنفيذ ينبغي أن تتوفر إرادة دولية وإقليمية بذلك. تلفظ النظم الإقليمية الزعماء الذين يرتكبون جرائم الإبادة مثلما فعل الأوروبيون مع سلوبودان ميلوسيفيتش في منتصف التسعينيات، وهي تقوم بذلك لحماية نطاقها الإقليمي وسلامها الاجتماعي الذي تهدده الحروب الدامية المندلعة إلى جوارها. ولكن في الشرق الأوسط، لم تتوفر إرادة حقيقية لمنع هذه الإبادة، بل على العكس، فإنّ ما حدث في السنوات العشر الأخيرة وفر لإسرائيل بيئة إقليمية حاضنة لهذه الإبادة، في مواجهة ما يوفره المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع من بيئة حاضنة لمقاومته.

خلال ثورات الربيع العربي ثم الثورات المضادة لها، شهد الشرق الأوسط تصاعدًا في معدلات ما يمكن تسميته بالعنف المنظّم ذي الطابع السياسي. في البداية قمعت الحكومات مظاهرات الاحتجاج ضدها وقتلت الآلاف. ومع تصاعد الأحداث انتصرت الثورة المضادة في تونس ومصر واحتكرت العنف وحكمت بالحديد والنار، فيما تفككت سوريا وليبيا وانقسم السودان واليمن.

في سوريا يلقي الأسد البراميل المتفجرة على السكان ويواجه انشقاقات جيشه فيما يولد تنظيم "داعش" ويؤسس دولته ويتوسع بها شرقًا في العراق، فيتشكل تحالف دولي ضدها. تحتل تركيا أجزاءً من سوريا وتستبيح الطائرات الروسية والأمريكية والإسرائيلية سماءها بلا رادع. تنقسم ليبيا بين حكومتين ويتصاعد فيها صراع مصالح، تؤجهه قوى إقليمية، وتشتعل حرب أهلية في السودان، تتورط في استمرارها القوى ذاتها. 

وإلى جانب تصاعد العنف السياسي، تميّز الشرق الأوسط في العشرية الماضية أيضًا بالسياسة والدبلوماسية الخشنة.

بهذه السياسات، وجدت النخب العربية الجديدة الحاكمة نفسها في أحضان اليمين الأمريكي الأكثر تطرفًا، الذي لا يُصدع رؤوسها بخطابات حقوق الإنسان طالما أنها ستنخرط في مشروعه السياسي للمنطقة؛ دمج إسرائيل في نسيج الشرق الأوسط سياسيًا واقتصاديًا يما يضمن ازدهار هذه النخب، ومنح الفلسطينيين شبه دولة يتمتع قادتها بصلاحيات رؤساء الأحياء ومخاتير القرى، وتندمج اقتصاديًا في المنطقة إذا لفظت مقاومتها ودجَّنت شعبها وأسقطت حق مُهجّريه في العودة، وحق من بقي - على جانبي الخط الأخضر - في المساواة ببقية سكان الأرض المحتلة، وفق خطة نتنياهو التي تسربت خلال الأشهر الماضية.

وبدلًا من أن يقوم الدبلوماسيون العرب خلال السنوات العشر الأخيرة بواجبهم في دعم الفلسطينيين وحشد الدول الصديقة في مواجهة مشاريع نتنياهو واليمين الأمريكي والأوروبي التي تعني تصفية القضية الفلسطينية، وجدوا أنفسهم مشغولين بالتعامل مع انتقادات قادة هذه الدول لانتهاكات حقوق الإنسان، والرد عليها ومحاولة احتوائها بالاقتراب أكثر من اليمين والتحالف معه.

ضمن هذا التحالف بقاء العلاقات التاريخية الراسخة مع الغرب واستمرار تدفق دعمه المالي والعسكري واعترافه السياسي. بل إنّ تحليلًا نشره معهد واشنطن التابع لـ"إيباك" عام 2016، أشار صراحة إلى قيام إسرائيل عام 2013 "بإطلاق حملات دبلوماسية في واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى من أجل دعم الوضع السياسي الجديد" في مصر، ما أدى إلى أن تشهد العلاقات المصرية الإسرائيلية "نموًا غير مسبوق".

مثلما جعل برميل البارود الذي سبحت فوقه أوروبا مطلع القرن الماضي من رصاصة برينسب حربًا عالميةً، منح تصاعد العنف السياسي وسيادة الدبلوماسية الخشنة في الشرق الأوسط مطلع هذا القرن نتنياهو "البيئة الحاضنة" ليستكمل إبادته في غزّة. فالعنف والقتل والتمييز الفج بين السكان لم تعد أحداثًا استثنائية... وطالما أفلت بها ممارسوها من الأنظمة العربية بحق شعوبها، فبإمكان نتنياهو الذي يتمتع بعلاقات أكثر رسوخًا وتكافؤًا مع الغرب أن يفعل المثل!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن