ثقافة

المجتمع والمقدّس

يمـيل كـثيـرٌ من الدّارسيـن الأنثـروپـولوجيّـيـن إلى الاعتـقـاد بأنّ المقـدّس الاجتماعيّ لا يقـلّ رسوخًا وأثـرًا في المجتمعات والثّـقافـات عن المـقـدّس الدّيـنيّ. مـن البيّـن أنّ الاعتـقـاد هـذا ينـهض على ملاحظة ما يَـتـمـتّـع به الكـثـيرُ من العوائـد الاجتماعيّـة من حرمـةٍ شديـدة؛ سواء في المجتمعات التّـقـليـديّـة، التي لم تمسّـها يـدُ التّـحـديث الاجتماعيّ إلاّ مسًّا خـفيـفًا، أو في المجتمعات الحديثة التي قطعـت شوطًا طويـلًا في خوض تجربـة الانفـصال عن ظـواهـر التّـقـليـد فيها.

المجتمع والمقدّس

والملاحظـة تلك لا تلبث تتواتـر في الأزمنة الحديثة على الرّغـم من عـملـيّات الجراحـة العـقـلانيّـة التي أجراها الفـكـر الحديث، وأجْـرتْـها التّـقـنـيّـة، في الأعـمّ الأغلب من مجتمعات الأرض، ويـتـأكّـد معها أنّ للاجتـمـاعـيِّ زمنًا خاصًّا بـه، مـثـل المعـرفـيّ، لا يَخـضع حُـكْـمًا للزّمـن السّياسيّ والاقـتـصاديّ، وأنّ التّـغـيُّـرات فيه تقـع بـبطـءٍ شـديـد وتَـحْـكمها إيـقاعـيـّـةٌ من الحركـة خاصّـةٌ لا تُـسْـتَـوعـى إلاّ في نطـاق نظـامـه الخاصّ.

المقدّسات الاجتماعيّة تفرض نفسها على النّاس بما هي منظومات أفعال واجبةُ الاتِّباع والالتزام

على أنّ ذلك الاعـتـقاد ليس مـبـنـيًّا على ملاحظـة ذلك الرّسوخ في يـوميّـات المجـتـمـعات فحسب، بـل يؤسّـسـه مـفـهـومٌ محـدَّد للمـقـدّس غيـرُ ذاك الذي دُرِج علـيـه في مياديـن دراسـات الدّيـن. ليس المـقـدّسُ، من زاويـة نظـر أنثـروپـولوجيا الـدّيـن، ما اعْـتُـقِـد بـأنّـه حُـرْمٌ واستـقـرّ الإيـمانُ بتعاليـه عن كـلِّ ماديٍّ ودنـيـويٍّ ومـدنّـس، بلِ المـقـدّس يشمـل كـلّ ما خَـلَـعَ عليه المجـتـمـعُ والوعـيُ الجماعـيّ مهـابـةً فَـتَـمَـتَّـع بحـرمـةٍ، وصِـيـرَ إلى احتـرامـه والامتـنـاع عـن انـتـهاكِـه الانـتـهاكَ الذي يُـذهِـب حرمَـتـه تلك. ولا يقـتـصـر التّـعريـفُ الأنـثـروپـولوجيّ هذا على المـقـدّس الاجتماعـيّ، فحسب، بـل يتخـطّـى ذلك إلى المـقـدّس الدّيـنـيّ نفسـه ولكـن مـن دون أن يكـون، وحـده، المعنـى المؤسِّـس للمقـدّس الدّيـنـيّ إذا كان يمكـنـه أن يكـون كذلك في حالة المـقـدّس الاجـتـمـاعيّ.

ما يـضفـيـه هـذا المنظـور الأنـثـروپـولوجيّ إلى ما هو مألوف في النّـظـر إلى مسائـل المـقـدّس هـو استـدخـالُ عامـل الأثـر الاجتـماعـيّ في تـكويـن المـقـدّس: أكان مـقـدّسًا اجتـماعـيًّا أو ديـنـيًّا. ليس مَـأْتى التّـقـديس في الدّيـن ما تَحُـضّ علـيـه نصـوصُ الدّيـن وتـعاليـمُـه، دائـمًا، وتـعاليـمُ الأنبـيـاء. ربّـما كان الأمـر كذلك في الأديان التّـوحيديّـة الثّـلاثـة حيث هناك كـتابٌ مؤسِّـس، وحيث حُـرْمـةُ ما يَـرِدُ فيـه قائـمـةٌ لا لـبـس فـيها، وهي محـطُّ التـزام المؤمنين ومـوضعُ إيـمانٍ لا يتـزعـزع. ولـكـن، ماذا عـن أديانٍ أخـرى غيـرِ كـتابـيّـة، يسـلِّـم أتـباعُـها بمصدرها غـيـرِ السّـماويّ؛ أيـن التّـعليم النّـصيّ الذي سيولـدُ الإيـمانُ منه بـقـداسـةِ هـذا الشّـأن وذاك؟ مع ذلك، يـوجـد مـقـدّس ديـنـيّ هنا كما هو مـوجود في ديانـات التّوحيـد. ومعـنى ذلك أنّ مصـدرَهُ ليس الاعـتـقـادُ في وجـوده النّـابعُ من نصـوصٍ (ليست مـوجودة في هذه الحالة)، وإنّـما مصـدرُه الأتبـاع (النّـاس، المجتـمـعـات): أولئك الذين خلـعـوا على أشـياءٍ بـعيـنـها (طقـوس، معـتـقـدات...) قـداسـةً فـرضتْ، مع الزّمـن، النّـظـر إليها كذلك تـمـامًا كما هـي حـال المـقـدّسـات الاجتماعـيّـة التي تـتـكـرّس وجـودًا داخل المجتمعـات كافّـة، وتـفرض نفسَـها على النّاس بـما هي منـظوماتُ أفعـالٍ واجبـةُ الاتِّـبـاع والالتـزام، على الرّغـم من العـلم بمـصدريّـتـها غيـر الإلهـيّـة.

كما أنّ الناس يقدّسون ما تقول تعاليم الأديان إنّه مقدّس كذلك يقدِّسون ما يعتقدون هُم من تلقاء أنفسهم أنّه مقدّس

من الواضـح، إذن، أنّ الاجـتـماعـيَّ وعـاءٌ مناسـب لحـمْـل التّـقـديس وتوزيـعِـه على المجـمـوع؛ أكـان تقـديـسًا ديـنـيًّا أو اجـتـماعـيًّا. وما ذلك إلّا لأنّ المـقـدّس، عـنـده، هـو كـلّ ما أسْـبَـغَ النّـاسُ علـيـه قـداسـةً؛ فكـمـا أنّ الأخيـريـن يـقـدّسـون ما تـقـول تـعاليـمُ الأديـان إنّـه مـقـدّسٌ واجـبُ الاحـتـرام، كـذلك يـقـدِّسـون مـا يـعـتـقـدون هُـم، مـن تـلـقـاء أنفسـهم، أنّـه مـقـدّس. ولـقـد يكـون في الدّيـنـيِّ ما هو تاريـخـيٌّ، أي مـا هـو مشـروطٌ بظـروفـه التي نشأ فيها و، بالتّـالي، قـد يتـغـيّـر بـتـغيُّـر تلك الشّـروط ويـتـقـلّص فيه ما كـان في حُكْـم الحُـرْم التّـامّ: أي عـدم الانـتـهاك (أليس التّـغـيـيرُ انـتـهاكًا لما هـو ثابت؟)، مع ذلك يفـرض الاجـتـماعـيُّ النّـظـر إلى الدّيـنـيّ التّاريـخيّ مـن حيث هـو مـقـدّسٌ لا يجـوز عليـه مساسٌ أو تغيير. والحـقّ أنّ أكثـر التّـاريـخيِّ في الدّيـن منـظـورٌ إليـه، اجـتـماعـيًّا، بحسـبانـه مـقـدّسًا وميـتاتاريـخيًّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن