المبادرة التي أطلقها شيخ الأزهر نهاية عام 2022، بحضور ملك البحرين وبابا الفاتيكان، حاول من خلالها القفز على حقيقة التفتت الديني والتصارع المذهبي الذي سيطر ويسيطر على العقل العربي والإسلامي.
لكن الشيخ كان واعيًا بمعطيات الواقع لذلك حدد في ندائه من هُم المُخاطبين به، وما هي الأسس التي يمكن أن يقوم عليها هكذا حوار، بدعوته علماء السنّة والشيعة لاجتماع حدد له الهدف المسبق بأنه "تعزيز الوحدة الإسلامية"، وآليات محددة للوصول لهذا الهدف منها "نبذ الصراع، وتجاوز الإشكالات التاريخية والمعاصرة، ووقف الاستغلال الديني والمذهبي في تهديد استقرار المجتمعات والتدخل في شؤون الدول".
الأزهر تاريخيًا هو صاحب مدرسة التقريب بين المذاهب
ودعا الشيخ الطيب علماء المسلمين في العالم كلِّه على اختلافِ مذاهبهم ومدارسهم الفكرية، إلى عقد الحوار من أجلِ إقرار الوحدة والتقارُب، ونبذ الفُرقة والفتنة والنِّزاع الطائفي، وتجاوز صفحة الماضي، وأبدى استعداده وكبار علماء الأزهر ومجلس حكماء المسلمين لعقد مثل هذا الاجتماع لـ"تجاوز صفحة الماضي وتعزيز الشأن الإسلامي ووحدة المواقف الإسلامية، التي تتسم بالواقعية، وتلبي مقاصد الإسلام وشريعته".
قبل ساعات من إطلاق شيخ الأزهر لندائه كانت الانتقادات تنهال عليه باعتبار أنّ زيارته للبحرين في ذلك الوقت – قبل عامين – كان هدفها المعلن هو عقد قمة دينية سادسة مع بابا الفاتيكان في المنامة، بعد التطور الكبير الذي حدث في علاقتهما الشخصية، وبين الأزهر كمؤسسة إسلامية كبرى والكنيسة الكاثوليكية، وارتكزت تلك الانتقادات على كون الأزهر المنفتح على قادة الأديان والمؤسسات الدينية المسيحية يغلق أبوابه أمام حوار آخر في الداخل الإسلامي ربما لا يقل أهمية عن بناء الحوار والتعايش الإنساني مع العالم المسيحي.
لكن ما عبّر عنه شيخ الأزهر في ندائه أكد أنّ هذا الهدف ظل حاضرًا في فكره قبل إطلاق دعوته، فالأزهر تاريخيًا هو صاحب مدرسة التقريب بين المذاهب وعقد باتجاه هذا الهدف العديد من الفعاليات، من بينها إقرار التعدد والتنوع المذهبي في مناهجه ومواقفه كجامعة إسلامية كبرى، ولولا حالة الاستخدام السياسي للمذهبية الدينية من أطراف متعددة لتحوّل هذا التقريب من هدف ما زال السعى جاريًا نحوه إلى واقع ننطلق منه لبناء أمّة تحترم التنوع في داخلها دون صراعات تستهلك الطاقة وتستنزف الجهود.
عبر عقد ونصف العقد تقريبًا تبنى شيخ الأزهر مفهوم المواطنة إسلاميًا، مؤكدًا أنّ الأوطان تُبنى على المواطنة بلا تمييز بين مواطنيها بسبب دين أو مذهب أو لون أو جنس، وعبّر عن هذا المعنى في خطاباته ومكاتباته ومحاضراته وفي مناهج المعاهد الأزهرية وفي وثائق الأزهر التي صدرت لتدعم هذا الهدف وعلى رأسها إعلان الأزهر للمواطنة والتعايش الصادر في 2017، ووثيقة الأخوة الإنسانية الموقعة في 2019 بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، وعزز الشيخ الطيب تلك الوثائق بخطاب واضح غير ملتبس يرفض مصطلح الأقليات وكل ما من شأنه أن يفرز الناس داخل الوطن الواحد، كما يعيد مصطلح أهل الذمة إلى سياقه التاريخي.
يمكن البناء على نتائج الحوار في استعادة العقل العربي من حالة الاختطاف المذهبي
ربما ساعدت تلك الرؤية في المكافحة الفكرية للتطرف القائم على الفرز والتصنيف الذي مزق العالم العربي، وتأتي مبادرة الحوار الإسلامي الإسلامي لتراكم جهود بناء المواطنة والتعايش عبر حوار من المهم أن يكون علميًا لا سياسيًا، يهدف لتعزيز المشتركات وهي كثيرة جدًا، ونزع التصورات والممارسات التي تعزز الكراهية وتبني على الوقائع التاريخية صراعات لا يمكن إنهاؤها، فتكرّس التربص الذي لا ينتهي.
حتى وقت قريب كان البعض ينظر إلى نداء شيخ الأزهر باعتباره دعوة حماسية تنتهي بمجرد نهاية ترديدها، والثابت خلال العامين الأخيرين أنّ التحضيرات والمشاورات كانت جارية بهدف الوصول إلى هذا الهدف وأنّ لقاءات تمت في العراق ولبنان والبحرين وغيرها تعطي أملًا في حد أدنى من التوافق على أهداف مثل هذا الحوار، الذي يمكن البناء على نتائجه أيًا كانت في استعادة العقل العربي من حالة الاختطاف المذهبي بكل ما تمثله من إضعاف وتفتيت وإنهاك للقوى وتفجير للمجتمعات من الداخل، ليكون خطوة كبرى في طريق ليس سهلًا وإن كان غير مستحيل للجم أي استغلال للدين في صناعة الكراهية.. وتحقيق وحدة تحترم التنوع وتنبذ الصراع.
(خاص "عروبة 22")