عندما يتم تجميد مجتمع أو تحجيره، بوضع سلطة على رأسه تفرض عليه شكلاً ثابتاً، فإنها تُعطل فيه حركة تطوره وتجديده، فالعلاقة بين الشكل والمعنى متبادلة، وثبات أحدهما يعني أن ذاك المجتمع جامدٌ، وأن حركة تغييره بطيئة أو تتم تحت سطحه، لا سيما إن كانت عملية تثبيته تتم بقوة الأفكار العقائدية والدينية، إذ ليس من السهل أن يقبلَ تغييره، بل يرفضه ويتشكك فيه!
هذه حال إيران منذ ابتكارها نظريات سياسية تحل بها مشكلة غياب دولة العدالة، بعد عصر الغيبة الكبرى، بدايةً من نظرية "الإذن العام" في عهد الدولة البويهية (932 - 1055م)، التي تفوّض للقادر من شيعة الإمام إقامةَ العدل حيثما أمكن، ثم نظرية "ولاية الفقيه" في عهد الدولة الإلخانية (1256 - 1335م) التي منحت الفقيه إنابة الإمام الغائب في الجوانب الدينية، وصولاً إلى ظهور نظرية "نيابة السلطان" في عهد الدولة الصفوية (1501 - 1736م) التي دمجت السلطة الدينية والسلطة الزمنية في شخص واحد، فالشاه إسماعيل بن صفي الدين، ادعى أنه أخذ الإجازة مباشرة من المهدي المنتظر لإقامة دولته! وبذلك قضى على عقيدة الانتظار التي تعتبر أي حكومة، وإن كان على رأسها شيعي، غير عادلة بسبب غياب الإمام المعصوم. وهنا تمت المزاوجة بين المُلك والدين، وبات التشيع يعمل لمصلحة السلطة لا لمصلحة الناس في إقامة دولة العدل.
لذلك كانت الثورة الدستورية (جنبش مشروطه) (1905-1911م) في العهد القاجاري بعد ذلك، محاولةً للتخلص من ذلك الإرث الذي رسخ الاستبداد السياسي والديني وبرر أفعاله بقوة النصوص الدينية، فكانت محاولة لتحريك المجتمع الإيراني من جموده وثباته الذي أدى إلى تخلفه ورجعيته عن العالم المتطور. ومن هنا نحسب إيرانَ الحديثة بدايةً من هذه الثورة.
لكن مَن تصدى لهذا التغيير الذي هدفه بث الروح في جسد المجتمع الميت؟ لا نقول رجل الدين بالإطلاق! بل الأدق أن نقول إنهم "الرجعيون" الذين يخشون تغيير الشكل الثابت، القلقون على مصالحهم ونفوذهم، فرجال دين من باب المرجعية الفقهية تحصلوا على مكانة اجتماعية واقتصادية وكانوا جزءاً من الطبقة الأرستقراطية والإقطاعية.
مَن دافع عن حق الناس في إقامة العدل الذي هو غاية الشريعة، رجالُ دين أمثال الشيخ محمد كاظم الخراساني وتلميذه محمد حسين نائيني، مِن دعاة تيار "المشروطة"، بينما عارض ذلك رجال دين أيضاً أمثال فضل الله نوري وميرزا شيرازي، مِن دعاة تيار "المشروعة" باسم محاربة القوانين الغربية وحماية الشريعة الإسلامية. وبذلك كانت هذه الثورة أول مواجهة كبرى بين التيارين الإصلاحي والمحافظ في إيران.
كان تطبيق نظام ولاية الفقيه بعد ثورة 1979 بمثابة انتصار لتيار "المشروعة"، إذ أعاد تفسير نُظمِ الدولة الحديثة لمصلحة سلطة رجل الدين، بعد سنوات من مقاومة التحديث والإصلاحات التي سعت إليها الدولة البهلوية بالقوة، لذلك ظهرتْ بعدها مؤلفات تنتصر لتيار "المشروعة"، مثل "المشروطية والشيخ نوري" لعلي أبو الحسني، و"التحديث الوطني والتحديث الظلي" لموسى النجفي.
وإيران المنقسمة اليوم على مَن الأجدر بقيادتها، أمام مخاض جديد ينتصر على الرؤية المحافظة التي عملت على تهميش الإصلاحيين لأكثر من أربعين عاماً باسم حماية قيم الجمهورية الإسلامية ومبادئ الثورة الإسلامية، والتي ترى في سوء الحجاب سبباً للجوع والفقر، وفي إسكات المعارضين واجباً لحماية تلك القيم، بينما في محاكمة المسؤولين الفاسدين مؤامرةً على النظام. فقد أدرك الإيرانيون بعد فشل المحافظين في بناء مجتمع ناجح أن شعار الشعب أولاً وإيران أولاً أهم من شعار مبادئ الثورة أولاً ونظام ولاية الفقيه أولاً!
(النهار اللبنانية)