بصمات

الجغرافيون العرب ورحلة اكتشاف العالم

قاد الجغرافيون العرب مرحلة تطوير علم الجغرافيا على مستوى الحضارة الإنسانية، بعدما استلموا المشعل من الإغريق، ومضوا قدمًا في رحلة اكتشاف العالم، فمزجوا بين الكتابة العلمية والتجول في مساحات شاسعة لاكتشاف أقطار لم يُسمع عنها، وسجلوا عادات وتقاليد شعوب لم تكن معروفة من قبل، ووضعوا خرائط دقيقة، فضلًا عن خرائط ملاحية على درجة عالية من الدقة.

الجغرافيون العرب ورحلة اكتشاف العالم

هذه المرحلة من الاكتشافات العالمية عادة تُهمل وتُسقط من الذاكرة العالمية بمرجعيتها الغربية، التي تركز الضوء حصرًا على مرحلة الكشوف الأوروبية.

الإنتاج العربي في الجغرافيا شكّل مرحلة مهمة في تطوير هذا العلم عبر إعطاء مادة متعددة الأبعاد غطت جوانب جغرافية وتاريخية واقتصادية واجتماعية وأدبية وثقافية وفلكلورية يندر أن نجدها في أي حضارة أخرى في الفترة الزمنية نفسها، أي بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين.

الجغرافيون العرب قدّموا النموذج الذي بنى عليه الأوروبيون عندما تسلّموا راية الكشوف الجغرافية

وقتها استغل الجغرافيون حرية الحركة في مجتمعات المسلمين الموحّدة ثقافيًا تحت لواء العربية، في الانتقال بحرية في فضاء جغرافي بين الأندلس غربًا، ووسط آسيا وحدود الهند والصين شرقًا.

المدهش أنّ الجغرافيين العرب لم يكتفوا بتسجيل معالم أقاليم مجتمعات المسلمين، بل كثفوا من جهودهم لاكتشاف بقاع خارج عوالم المسلمين، فقدّموا النموذج الذي بنى عليه الأوروبيون عندما تسلّموا راية الكشوف الجغرافية، وهي حقيقة علمية يقرها علماء غربيون درسوا هذا الحقل المعرفي، أمثال الروسي كراتشكوفسكي في كتابه المهم "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، والفرنسي أندريه ميكيل في كتابه "العالم والبلدان: دراسات في الجغرافية البشرية عند العرب"، وكلاهما أنتج دراسات شديدة الرزانة في تتبع المنتج العربي الجغرافي.

إرهاصات الكتابة الجغرافية العربية بدأت نتيجة اتساع الدولة العربية الإسلامية التي رغب مركز الخلافة في معرفة الطرق والمسالك بين أقاليم هذا العالم شبه الموحّد لغويًا، والخاضع لسلطة الخلافة، وتقدير إمكانات كل إقليم لمعرفة ما يستحق عليه من الضرائب، فضلًا عن تقارير السفراء إلى الدول الخارجة عن إطار العالم الإسلامي، وما سجله البحارة الذين خاضوا مغامرة اكتشاف المحيط الهندي انطلاقًا من البصرة، والتي سرعان ما عرفت طريقها إلى كتب الأدب الشعبي؛ وتحديدًا النص العالمي المدهش "ألف ليلة وليلة"، فما قصة السندباد إلا رجع الصدى في أجواء أسطورية لمغامرات التجار والبحارة لاكتشاف عوالم جديدة في الشرق البعيد.

المرحلة التالية شهدت تسجيل بيانات جغرافية بناءً على معلومات مسجلة عبر المشاهدة والملاحظة الشخصية، فنحن ندين مثلًا إلى رحلة ابن فضلان (توفي في الربع الأول من القرن العاشر الميلادي) بمعلومات غاية في النفاسة عن بلغار الفولغا في وسط آسيا. الأمر تكرر مع مؤرخ جغرافي من حجم المسعودي (توفي 956 م)، والذي امتاز برحلاته الواسعة التي استهدف من ورائها جمع معلومات عن شعوب العالم المعروف وقتذاك، فشملت رحلاته انطلاقًا من العراق كل من العالم الإيراني والهند، وربما الصين وأرخبيل الملايو، ووسط آسيا وشرق وشمال أفريقيا، قبل أن يستقر في مصر، فضمن كتبه والتي لم يصل لنا منها إلا "مروج الذهب" و"التنبيه والإشراف"، مادة غنية تشمل معلومات فريدة عن الصقالبة (السلاف) والروس مثلًا.

الاعتراف بالتفوق العربي في الجغرافيا وما يتعلق بمسالك البحار والطرق عليه أكثر من دليل

وإذا تركنا المسعودي خلفنا برحلاته ومعلوماته المدهشة، وجدنا بعده مجموعة من الجغرافيين الكبار الذين وصلوا بهذا الفن إلى الذروة، ليس فقط على مستوى الحضارة العربية، بل على المستوى العالمي في وقتهم، نذكر منهم هنا: ابن حوقل (توفي 988م)، والمقدسي البشاري (توفي 991م)، والبكري الأندلسي (توفي 1094م)، الذين قدموا معارف جغرافية ضخمة وصلت بفن رسم الخرائط إلى مستوى مذهل من الدقة في وصف الكثير من أنحاء العالم المعروف وقتذاك، مع التركيز على أقاليم المسلمين، بينما ترك لنا العلامة البيروني (توفي 1048م)، وصفًا مدهشًا للهند في كتابه البديع "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".

الاعتراف بالتفوق العربي في الجغرافيا وما يتعلق بمسالك البحار والطرق عليه أكثر من دليل، فهذا الملك النورماندي روجر الثاني، حاكم صقلية، يطلب من الجغرافي العربي الشريف الإدريسي (ت 1165م)، تأليف كتاب جغرافي للعالم، فيخرج إلى النور "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، كما صنع له مصور العالم على كرة ضخمة من الفضة.

هناك نموذج آخر وهو يمثل انتقال المعرفة الملاحية العربية إلى أوروبا الغربية، وهي حقيقة أقرها بحارة مستكشفون من طراز فاسكو دي جاما، الذي يدين بنجاح حملاته على منطقة عمان والخليج إلى خارطة بحرية أعدها ربان عربي يدعى عمر، وكما هو معروف فالملاح الجغرافي ابن ماجد هو من دل دي جاما على طريق الوصول إلى الهند، ليبدأ التاريخ دورة أخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن