بصمات

حركة الإحياء الأفريقي والوضع العالمي الجديد

قبل أيام انعقدت ببكين قمة صينية - أفريقية حضرها أغلب قادة القارة السمراء، وأفضت إلى ما يشكل بوادر شراكة استراتيجية كاملة بين الدول الأفريقية والعملاق الصيني. هذه القمة سبقتها مبادرات سابقة مع روسيا والهند والبرازيل وتركيا، في الوقت الذي تراجع النفوذ الغربي في أفريقيا نوعيًا في السنوات الأخيرة.

حركة الإحياء الأفريقي والوضع العالمي الجديد

لا أحد يجهل أنّ النظام الأفريقي الحديث صناعة أوروبية محضة، منذ أن بدأت السياسات الاستعمارية بتقاسم القارة إلى مناطق نفوذ موزعة بين بريطانيا وفرنسا، وبصفة أقل ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال.

مزق الاستعمار أوصال القارة الأفريقية مخلّفًا أزمة حدود عميقة لا تزال مصدر الفتن والحروب 

فرضت القوى الاستعمارية الأوروبية الخارطة السياسية للقارة التي خلقت واقعًا جديدًا على أنقاض الممالك والدول الكبرى التي كانت تسيطر على أقاليم واسعة مثل الإمبراطوريات المانديكية في غرب أفريقيا، والدول السواحلية في وسط وشرق القارة وممالك الزولو في جنوبها.

قضى الاستعمار على الأرضية المجتمعية السياسية للحضارات الأفريقية، واستبدل اللغات الأفريقية بلغات أوروبية مستوردة، ومزق أوصال القارة مخلّفًا أزمة حدود عميقة لا تزال مصدر الفتن والحروب الدامية التي تعصف باستقرار وأمن المنطقة .

في أربعينيات القرن الماضي، برزت النزعة القومية الزنجية في شكل فلسفي وأدبي لدى الرئيس السنغالي الأسبق ليبولد سدار سنغور والأديب الكاتب المارتنيكي أميه سيزير، قبل أن تتحول إلى حركة تحرر وطني نشطة لدى قادة معروفين تسلموا السلطة في بعض البلدان الأفريقية، من بينهم بارتريس لوموبا وكوامي نكروما وموديبو كيتا واحمد سيكو توري.

لقد كان هؤلاء القادة من أهم رموز الحركة الأفرو آسيوية التي عُرفت من بعد بمجموعة عدم الانحياز، وطرحوا خيار الاندماج الأفريقي الشامل وفك الارتباط مع مراكز القوة الاستعمارية السابقة، بما أدى إلى إسقاط جلهم عن طريق انقلابات مدبرة مدعومة من الأنظمة الغربية.

منذ نهاية الستينيات إلى بداية التسعينيات عرفت أغلب الدول الأفريقية انقلابات عسكرية متتالية، وبرزت أنظمة ثورية راديكالية في أنحاء عديدة، قبل أن تدخل دول القارة في مسارات انفتاح ديمقراطي وإصلاح سياسي نجحت في بعض البلدان وأخفقت في بلدان أخرى.

وفي السنوات الأخيرة، رجعت الانقلابات إلى الساحة الأفريقية، خصوصًا في غرب أفريقيا ووسطها، في سياق تطبعه ثلاث سمات مترابطة هي: تزايد موجة الإرهاب والتطرف العنيف، واستشراء الفساد السياسي لدى الأنظمة المنتخبة التي ترفع الشعارات الديمقراطية، وانحسار النفوذ الغربي مع انبثاق نزعة تحررية سيادية لدى الجيل الجديد من العسكريين الذين استولوا على السلطة.

بالنسبة للحكام العسكريين الجدد (في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا والغابون...) يقتضي مشروع إعادة بناء الدولة والإصلاح السياسي القطيعة مع القوى الغربية والانفتاح على الدول الصاعدة شرقًا وجنوبًا، بما يفسر تقوية التعاون العسكري مع روسيا وتوطيد الشراكة الاقتصادية والتجارية مع الصين، ودمج البرازيل في المنظومة الأفريقية التي تشكل امتدادًا بشريًا لها في العمق الأمريكي الجنوبي.

تحوّلت أوروبا إلى هامش مهمل في خارطة العالم الجديد

من أبرز المفكرين الأفريقيين الذين عبّروا عن هذا التوجه الجديد الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني أشيل بمبة الذي دعا في كتابه الهام "نقد العقل الزنجي" إلى تحرير الإنسان الأفريقي من التصور الاستعماري الأصلي الذي اختزله منذ عهود الاسترقاق ثم الاحتلال الأوروبي القسري إلى بضاعة توظف في السوق الرأسمالية الكونية عبر تصنيفات عرقية عنصرية. إنّ هذا التحرير حسب بمبة هو الشرط الموضوعي لتحرر الإنسانية كلها من وضع الزنوجة الذي هو حال إنسان العولمة المستغل والمضطهد، بعد أن تحوّلت أوروبا إلى هامش مهمل في خارطة العالم الجديد.

ومن هنا نستخلص أنّ حركة الإحياء الأفريقية الجديدة تتميّز عن النزعة القومية الزنجية التقليدية بأفقها الإنساني الكوني الذي هو الخلفية العميقة لحيويتها الاستراتيجية المتصاعدة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن