تـتـنـزّل العـروبةُ من الوطنـيّات منزلـةَ المُـحَّة من البَـيْضـة؛ هي منها الجـوهـرُ والسّـمْت، وهي منها الموردُ الذي منه تَـرِدُ طاقـتـها الدّافعـة، لذلك ما من مـآلٍ لانشـقاق الوطـنيّـات عن العـروبـة إلاّ الانعـزال عن محيـط القـرابة القـوميّـة وما في ركابـها من جزيـل المصالح والعـوائـد. على أنّ عروبـةَ أيِّ وطـنـيّـةٍ من وطنـيّاتـنـا لا تأتي هذه الوطنـيّـةَ من خارجـها، فـقط ودائـمًا؛ أعـني من علاقـةٍ تشُـدُّهـا إلى غيرها من الوطـنيّـات العربيّـة الأخـرى؛ ذلك أنّ هـذه - وإنْ لم تكـن، قطـعًا، عـروبـةً «مستـورَدةً» أو «بـرّانيّـة» - أقـلُّ مفـعوليّـةً في توليـد الاندماج الاجتماعـيّ والتّـماسُـك الوطـنيّ من عـروبـةٍ مـن مَحْـتِـدٍ ثـانٍ هي تلك التي تـأتـي الوطنيّـةَ...، مـن داخـلها. هـذا يعـني أنّ العـروبـة رابطـةٌ اجتماعيّـة داخليّـة بمقـدار ما هي، في الوقـت عـينِـه، رابطـةٌ عربيّـةٌ بيـنيّـة، وأنّ جمـاعةً وطنيّـةً عربـيّـةً مـا ليس لها أن تكـون عنها بمعـزِلٍ، ولا هـي تملك أن تكـون عنها في غَـنـاء.
ما من مصلحة للعروبـة في تجفيـف المورد الحـيويّ لها (الوطنـيّـات) بافتعـال الخصومات معـه
ولكـنّ هـذه العـروبة التي لم يُـسْعِـفـها تاريـخُها المعاصر، وكوابـحُه التي لا تُـحْـصى، في أن تجـد لنفسها التّجـسيدَ المـاديَّ: السّيـاسـيَّ والمـؤسَّـسيَّ، في كـيانٍ مـوحَّـد - أُسْــوَةً بغيرها من الرّوابـط القوميّة المشابهـة في العالم - قـد يُـشْـبِع بعضَ حاجتها، اليـوم، أن تضمن عـلاقـةً صِـحّـيّةً بوطنـيّاتها تستـثمر فيها للمستـقبل؛ وذلك أضْـعـفُ الإيمان. ولعـلّ ممكنات تلك العلاقـة تتحـقّـق من طريق التّشـديد الفكـريّ، ابتداءً، على أنّ الشّـكـلَ الماديّ الوحيـد الذي تتـجسّـد فيه العـروبـة، اليـوم، وحتّـى إشعارٍ آخـر، (هـو) وجـودُ هـذه الوطنـيّـات العربيّـة متجاذبـةَ الآثـار بينها ومستـويـةَ القَـوام على قاعـدةِ العروبـةِ رابطـةً داخلـيّـةً تصنع لحمـة كياناتها. و- قطـعًا - ما من مصلحـةٍ للعروبـة في تجفيـف هـذا المورد الحـيويّ لها (الوطنـيّـات) بافتعـال أيٍّ مـن أنـواع الخصومات معـه.
ليس من طـرفٍ يخْسَـر في هذه العلاقـة، إذن، لأنّ مبْـناها على الاغتـناء المتبادَل. تكْـسب الوطنيّـاتُ العربيّـة من العـروبـة التي تؤسّسهـا من الدّاخـل فـتصـنع فيها الوشائـج، والتي ترفـدُها من طريق علاقـاتٍ ترابطيّـة تـشـدُّها إلى بعضها. كلّـما توطّـدت أركـانُ العروبّة وقَـوِيت شوكـتُها تعاظمـت، بالتّـبِعَـة، عـوائـدُ ذلك على الوطنـيّـات وعلى مواردها. وكذلك تَـكْسـب العروبـة من وطـنيّـاتٍ هي الشّـكل التّاريـخيّ الرّاهـن لتجـلّـيها فَـتَــقْـوَى بقـوّتـها وتنهض بنهوضها، ولعلّـها تكون - في مستـقبلٍ قـادمٍ - مـادّةً لكيانها الاتّـحاديّ إنْ تـهيّـأت لذلك الأسبابُ ونضجـتِ الشّـروط.
العروبة لا تُنْهي الوطنيّات... والوطنيّات لا تُلْغي العروبة
هـي ليست معادلـةً ذهـنيّـةً افتـراضيّـة هـذه المعادلـةُ التي نُـقيمها بين العـروبـة ووطـنـيّـاتها. هي سرديّـةٌ مبْـناها على مـزيـجٍ تركيـبيّ من وقائـع العلاقـة بينهـما - كما هـي تجري في الواقـع - ومن مبادئ التّاريـخيّـة والواقعيّـة التي لا نُـدْحـة عنها في أيّ بـناءٍ اجتمـاعـيّ وحضاريّ. آيُ ذلك أنّ العـروبـة لم تُـنْهِ الوطـنيّـات حين ارتفعتْ دعـوةً صادحـةً هـادرة، وأنّ الوطـنيّـات لم تُـلْغ العـروبـة حين استـوتْ دولاً مستقـلّة. أمّـا مبـادئ الواقعيّـة التّاريخيّـة فتقضـي بوجـوب التّـفكير في ممكنات التّاريخ بعـقـلٍ متشـبّـع بالواقعيّـة وبالتّـدرُّج والتّـراكم في سيرورة التّـطوّر؛ التّـفكير الذي يقـود إلى اجتـراح كبـرى الغايـات من غير كـثيـرِ آلامٍ وعظـيمِ خيْـبات.
(خاص "عروبة 22")