مراجعات

أزمة الإنسان المعاصر مع الثورة الرقمية

ليبيا - منعم دائخة

المشاركة

في عام 2015، أراد عاطلٌ عن العمل في ألمانيا طعن المرشحة في انتخابات كولونيا هنرييت ريكير، وهي عمدة كولونيا اليوم، والمعروف عنها بتسامحها مع المهاجرين، خصوصًا المسلمون منهم، حين سمحت في قرار جريء برفع الآذان جهرًا في مساجد المدينة. ما فعله المعتدي عليها كان في رأيه تعبيرًا عن رفضه وغضبه لتدفق المهاجرين في كولونيا. ومعروف أنّ ريكير سمحت بفتح باب اللجوء للمهاجرين، وقد سُئل المجرم لمَ أراد الإقدام على هذه الجريمة؟ أجاب قائلًا: "لكي أحمي المجتمع من هؤلاء المهاجرين!".

أزمة الإنسان المعاصر مع الثورة الرقمية

يلتقطُ الفيلسوف والنّاقد الثقافي الفرنسي إيريك سادان هذه الحادثة وغيرها من الوقائع التي ارتُكبت ضدّ سياسيين ومرشحين للانتخابات في بعض الدول الأوروبية ليشرّح أزمة الإنسان المعاصر في عصر الإنترنت، وهي الحادثة نفسها التي كانت في صلب عمله الذي يحمل عنوان "عصر الفرد الطاغية. نهاية العالم المشترك".

يرى سادان أنّ المواطن شعر بالخيانة والغدر خلال الانتخابات، وأنّ الجمهور ساخط على الطبقة الحاكمة التي يراها فاشلة بامتياز، وفي هذا الجو في نهاية القرن العشرين، هيمنت تقنيتان أبرزتا هذه التيارات التحتيّة في تحوّر المواطنين: الإنترنت والهاتف المحمول، وكلاهما أضفى وهْمًا بزيادة الاستقلاليّة وأهميّة ذات الشيء.

يلاحظ سادان بسعة اطلاعه الميول التي يصبح فيها الفرد مكتفيًّا ذاتيًا ومرجعًا لذاته، وستحدث نقلة نوعية مع شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام) حيث يُعبّر الفرد المكتفي ذاتيًا بآرائه، ويحكم ويُدين ويُهاجم بشدة مشبعًا بقناعة أنّ لديه صوته الفريد في الواقع، حيث يتلاشى الصالح العام.

لكن ما الحلّ مع تصاعد الشعبوية وخطاب الكراهية والعنف حول العالم؟ يقترح علينا سادان أن نبحث عن نوع جديد من الممارسة السياسيّة التي تضاعف بشكل لا نهائي، بالنسبة للمواطنين، فرص العمل معًا، وتدفعهم للشعور كل يوم بأنهم يعتمدون على بعضهم البعض وأنّه لا مجال للعيش إلّا حسّا بالمشترك! فمنذ الحرب العالمية الثانية ومع دولة الرفاه والتي بدأت مع صعود موجة النيوليبراليّة (تاتشر، ريغان..) وأولوية رأس المال والتمويل على السياسة، كان لزامًا على سادان أن يقوم بممارسة تفكيكية للتغيّرات الكبرى التي طرأت على حياة الناس وغيّرتهم إلى الأسوأ وأفقدتهم إنسانيتهم ومشاعرهم وتآخيهم. هكذا سنقرأ نقدًا تفكيكيًّا للإنجازات الاجتماعيّة وانتشار زيف "الإنسان العصامي"، وهو نسخة ناعمة من "الاستغلال الذّاتي".

يقول سادان عن عمله هذا، إنّ أحد أهداف هذا الكتاب المخصّص للفرد المستبد، هو مراقبة تأثير هذه التقنيات على علم النفس والنفسية لدينا والطريقة التي غيّرتنا بها هذه التقنيات. في ظنّي، يلزم إعادة النظر في تاريخ التقنيات تحت العدسة المكبرة لتاريخ أوضاع الجسم. فاليوم لدينا جسمٌ متحركٌ وجسمٌ خبيثٌ. هذه التعبئة التي تنظمها للشاشات والإشارات كذلك العزلة مع "الميتافيرس"، ستأتي الحقيقة من الشاشات أكثر مما تأتي من زملائنا الآخرين. نحن نستسلم للأدوات التكنولوجيّة لتنظيم وجودنا بدلًا من القيام بذلك باستخدام حدسنا، نحن والآخرين، معًا. كل شيء يُعيدنا إلى الواجهة واستنفاد الشعور. وقع الجميع في فخّ فكرة التحرّر عبر الشبكات. إنّها مزحة الظنّ بأنّ الكتابة على لوحة المفاتيح في منتديات النقاش خلقت عملية تحرريّة. أفضى الخطاب الذي طورته الصناعة بأكملها إلى افتراض أنّ كل شخص سيتتبع مساره الخاص ويحقق ذاته من عبر شعوره بالرضا. لقد كان فخّا نصبته صناعة عرفت كيف تجعلنا نقع في الفخ بفكرة أراها بأنها نوع من التسمم بتعبيرنا واستقلاليتنا المفترضة. هذه بالضبط عزلة جماعية. إحدى أهم النضالات السياسيّة الحاسمة في هذا العقد هي النضال من أجل الاستعادة وإعادة التأكيد على حساسيتنا وقدراتنا الشعوريّة. يجب استعادة أساليب الشعور.

عصر الفرد هو اللحظة التي يُقبل فيها الجهل والاستسلام للحفاظ على العلاقات مع العالم والآخرين وذلك عن بُعد وعبر الشاشات. تحوّلنا من اقتصاد البيانات والمنصات إلى اقتصاد المسافة، فهل ندرك الكارثة التي تنتظرنا ونعرف تدخل الشاشة وإدخال وسطاء وجواسيس جُدد؟ "الميتافيرس" هي أداة عملاقة لمعرفة وتفسير ذواتنا أننا سنكون أكثر استقلالية. سيكون هناك ارتباط سري أقوى مع الشركات الخاصة الكبيرة التي ستوجهنا كهذا الحال في كل الأزمان مع وجود خوارزميات نشطة بالكامل، يضيف المؤلف.

في كتاب "عصر الفرد الطاغية.. نهاية عالم مشترك" نقرأ الحاجة إلى "انتقام" الأفراد المنعزلين، الذين يشعرون أنّ لديهم شرعية لارتكاب اعتداءات "عمياء" ضد الزعماء السياسيين، كجزء من ظاهرة أو طفرة من العنف السياسي برزت مع نوع جديد من التحولات وهو تحول "الميتافيرس" ووسائل التواصل الاجتماعي بأشكالها المختلفة التي عزّزت من العنف والهمجيّة واستأصلت المشاعر الإنسانيّة والقيم النبيلة من بني البشر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن