بصمات

"الانهزام الذاتي": الصراع العربي الإسرائيلي نموذجًا

يعيش الوضع العربي على سلسلة متتالية من الهزائم والأزمات والصراعات الإيديولوجية المغلقة على ذاتها، مقارنةً مع إسرائيل التي نجحت إلى حدّ ما في قيادة الصراع إلى مراحل جد متقدمة، تمارسُ فيها كل تفوقها السياسي والاستخباراتي والمعلوماتي، تاركةً الطرف الآخر على كرسي المتفرج يتابع الأحداث دون أن يملك القدرة على تغييرها. والحال أنّ هذا السكون المعلن يترجم في الحقيقة تشخيصًا لراهننا العربي، وهو راهنٌ يقف على الهامش ويفتقد في الغالب لرؤية نقدية اتجاه الذات والأخر، وهو غموضٌ وجوديٌ يعكس بالأساس ضبابية بنيوية تمتد من الدولة الوطنية إلى الكل القومي.

إنّ نمط تعاطينا مع البنية المفهومية لمختلف التجارب الزمنية التي مررنا بها، يرسم لهوية مفهومية وطنية وقومية مضطربة وغامضة وملغمة، هذه الضبابية لا تساهم في تحقيق تسييج للوضع العربي في إطار التمكن من رسم أفق مستقبلي واضح ومحدّد وقابل للإنجاز، وذلك لاعتبارين اثنين على الأقل: الأول يُفيد بأنّ التأسيس المفهومي معناه ترجمة حقل تجاربنا الراهنة للتصور المعبّر عنه، والثاني أنّ أيّ تفاوت بين الواقع المعاش أو حقيقة هذا الواقع والإطار المفهومي المعبّر عنه ينذر بسكون زمني مستديم، ما دام أنّ عملية تناول عناصر الحركية الزمنية تحتاج لتشخيص هذا الراهن أو الحاضر حتى نتمكن بشكل واضح من تسطير الأفق المستقبلي.

قد يكون نافعًا هنا التذكير بنموذج المؤرخ الألماني راينهارت كوزيليك الذي يُعتبر عمليًا أحد الرواد المشتغلين على التاريخ الاجتماعي الحديث، حيث إنّ عمله حول التاريخ المفهومي مكّنه من احتلال مكانة عالمية مميّزة، بل يُعتبر من بين أضخم أعماله معجم المفاهيم التاريخية الذي يُترجم ذاكرة الهستوغرافيا الألمانية، وهو عمل قام به إلى جانب كل من أوتو برون وفاغنر غونز.

هزيمة 1967 تمّ تغليفها بتبريرات بخلاف التوجه الإسرائيلي الذي يعتبر أقل هفوة بمثابة انهزام وجب المساءلة عنها

ومعلوم أنّ المعجم يحاول أن يُسطر المقومات المفهومية للحركية التاريخية، التي تحاول بناء الهوية الوطنية ما بعد الحرب العالمية الثانية. لهذا قد يكون مفيدًا هنا، بمعنى ما، تناول مفهومي الانتصار والهزيمة في السياق العربي الراهن من منظور التاريخ المفهومي.

صحيح أنّ عملية التعامل مع هذه العُدّة المفهومية الخاصّة بالصراع، تختلف حسب الجغرافيا والحدود المشكّلة للوطن والانتماء واللغة والقصد الموجه أو المبطن، لكن تظل مع ذلك عملية رصد المفاهيم الموجهة للصراع والمحددة للهوية القومية أساسًا لتحريك الراهن العربي، لأنّ ما يحدث حاليًا في فلسطين ولبنان لا يمكن أن يُفهم أو يتم تصوره داخل تاريخ خاص مُغلق خارج الكل القومي، بل بالضرورة في إطار أفق منفتح على هذا الكل العربي.

ما يدفعنا للقول إنّ:

- مفهومَي الانتصار والهزيمة في الوعي العربي يتم تأطيرها وفق شبكة سيكولوجية محضة لا تناسب الواقع الحقيقي لهذا الصراع، مما يرفع الصراع عن حيثيات واقعه، ويُخندقه بزاوية الذات المجروحة التي تحاول التغاضي عن الهزيمة بدعاوى المخاوف من اضطراب سياسي يُكسّر استمرار السلطة، وينذر بفتنة وطنية. لهذا بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول غلب على التجارب التاريخية لهذا الصراع طابع الهروب إلى الأمام، خوفًا من مواجهة تبعات الأزمة بشكل مباشر.

- التعامل مع مفهوم الهزيمة يأخذ طابعًا سلبيًا غير مقبول، إذ يعتبر الاعتراف بالهزيمة بمثابة سقوط مدوي لا يمكن التعايش معه أو حتى الاعتراف به، فيتم خلق تبريرات وأوهام مختلفة لتقديم صورة مخالفة لما هو عليه الوضع. فهزيمة 1967 كانت بمثابة صدمة صعب تجاوزها أو حتى الوقوف على أسبابها لتجاوزها مستقبلًا، بل تمّ تغليفها بتبريرات تعطي انطباع الانتصار على الهزيمة ذاتها، وذلك بخلاف التوجه الإسرائيلي الذي يعتبر أقل هفوة اتجاه وجوده بمثابة انهزام وجب المساءلة عنها ومواجهتها، والانهزام لا يحدّد في الميدان وحسب، بل أيضًا في حيثيات الصراع الاستخباراتي والسياسي والمعلوماتي، وقد اعتبرت عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول هزيمة كبرى وجب محاسبة الأجهزة الاستخباراتية عليها رغم تفوقها الميداني.

عاش الوعي العربي لعقود على إيقاع خطابات شعبوية ودينية وإيديولوجية تخدم أطرافًا سياسية معينة 

- الاستعلاء عن الواقع العربي ينذر بالاستمرار في الانهزام، مما يجعل منه انهزامًا ذاتيًا، قبل أن يكون انهزامًا أمام الآخر.

- الوعي العربي، رغم نكباته وبطولات وهمية، عاش لعقود على إيقاع خطابات شعبوية ودينية وإيديولوجية تخدم أطرافًا سياسية معينة، ممّا جعله يستبطن النصر قبل تحققه، ودون أن يهيئ له أسباب تحققه، فتم نسج حجاب جهل لما عليه وضعنا العربي في المعترك الدولي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن