ثقافة

المنظومة التعليمية في تونس: مقدّمات تاريخية (1/3)

يكتسي التعليم بصفة عامة أهمية خاصّة، إذ لا يمكن نشر الثقافة وبناء نظام اقتصادي وطني تنافسي منتج للثروة، وضمان إشعاع البلد في محيطه الإقليمي والدولي دون تمتيع المواطن بتعليم جيّد فعّال مدعم من قبل الدولة. وبَيّن التاريخ المعاصر أنّ التعليم كان بوابة تقدم الشعوب ورفاهيتها.

المنظومة التعليمية في تونس: مقدّمات تاريخية (1/3)

كانت مسالة تطوير التعليم من أهم مشاغل النخب السياسية في تونس قبل احتلال البلاد ومن بعده. إذ تمّ إنشاء أول مدرسة حديثة، وهي المدرسة الحربية سنة 1840، التي اعتمدت تدريس العلوم كالهندسة والمساحة والحساب واللغات الأجنبية إلى جانب مواد بالعربية. كما تمّ تأسيس المدرسة الصادقية سنة 1875 التي اهتمت بدورها بتدريس الموادّ العلمية (الرّياضيات والطبيعيات والجغرافيا)، واللّغات كما عرف التعليم الزيتوني التقليدي بدوره عدة محاولات للإصلاح.

وبعد استعمار البلاد من قبل فرنسا (1881) اعتبرت النخبة المثقفة (حركة الشباب التونسي 1907-1912) ثم الحركة الوطنية الحزب الحر الدستوري التونسي (1920) والحزب الدستوري الجديد (1934) قضية التعليم قضية مركزية ناضلت من أجل تطوير مناهجه وتعميمه جغرافيًا واجتماعيًا. وبعد الاستقلال صار التعليم من بين أهم رهانات الدولة الجديدة، فتمّ إصدار أول قانون يُنظّم التعليم (القانون عدد 118 لسنة 1958) الذي ارتكز على مبادئ عامّة لعلّ من أهمها تجديد التربية والتعليم بما يواكب العصر وتحولاته. كما تمّ إقرار اجبارية التعليم ومجانيته في جميع مراحله (من سن السادسة إلى سن الثانية عشر) مع تعميم الاختلاط في جميع المؤسّسات التعليمية منذ سنة 1968 وحذف التعليم الديني واعتماد منهج تعليميّ منفتح على اللغة والثقافة الفرنسيتين مع الحفاظ على اللغة العربية، وبالتوازي مع ذلك عملت الدولة على بناء المدارس والمعاهد في المدن وخاصّة في الأرياف. ولتحقيق كل ذلك، تمّ رصد ما بين خمس وثلث الميزانية العامة للدولة للقطاع التعليمي.

أصبحت المنظومة التعليمية في تونس تعيش أزمة مركّبة عميقة منذ ما يزيد عن العقدين

لقد كان لتمدد التعليم جغرافيّا آثار إيجابية على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والصحّي للتونسيين عامة وهيّأ كل ذلك تشكّل نخبة تونسية تتمتّع بكفاءة عالية ساهمت في بناء الدولة التونسية الحديثة. ومنذ السبعينات من القرن الماضي تجاوزت نسبة التعليم 90% ما أهّل تونس لاحتلال المراتب الأولى عربيًّا وأفريقيًّا في مجال التعليم.

إلّا أنّه مع مرور الوقت طرأت بعض المشاكل ذات علاقة بالمناهج المعتمدة مما فرض إجراء إصلاحات عديدة لعلّ أهمها الاصلاحات التي قام بها وزير التربية محمد مزالي في السبعينات تماشيًا مع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تمّ اعتمادها من قبل الدولة التونسية، وتمثلت أساسًا في تعريب التعليم وتحوير بعض مفردات البرامج التعليمية، ورغم الانتقادات العديدة حول طبيعة تلك الإصلاحات من حيث المضمون والشكل، استمر العمل بها إلى حدود 1991 وذلك بعد صدور قانون 1991 المتعلق بالنظام التربوي، والذي لم يختلف عن النظام السابق من حيث الشكل، إلّا أنّه اقتضى تدريس كل المواد الإنسانية والعلمية والتقنية في المدارس الابتدائيّة والإعدادية باللغة العربية ومراجعة البرامج المدرسية وتدريس مادة التربية على حقوق الإنسان والحقوق المدنية (مادة التربية المدنية التي تمّ فصلها عن مادة التربية الإسلامية).

وقد اتّهِم الوزير الشرفي (ذو اتجاه يساري) من قبل التيارات الإسلامية بسعيه لتجفيف "منابع الإسلام"، وإثر عزله، صدرت إصلاحات أخرى، منها القانون عدد 80- 2002، الذي أقرّ مجموعة من الإجراءات الجديدة منها خاصّة إرساء المقاربة بالكفايات وتوظيف التكنولوجيا الحديثة واعتماد البيداغوجيا الفارقية وإعادة النظر في التوجيه المدرسي والمسالك المؤدية إلى شهادة الباكالوريا تفاعلًا مع سوق الشغل والتحولات الاجتماعية والاقتصادية محليًا وإقليميًا ودوليًا. ومثّلت كل تلك التغييرات نماذج تعليمية وافدة بطريقة شكلية متسرعة حينًا مترددة أحيانًا أخرى. فلم يكن التحديث تبعًا لذلك شاملًا دقيقًا كما لم يكن التأصيل واضحًا عميقًا، بل كان هاجس المشروع التربوي التركيز على الجانب الكمي على حساب الجودة وظلّت المدرسة التونسية تبعًا لذلك، ولأسباب أخرى، لا تلبّي انتظارات التونسيين وآمالهم وهكذا أصبحت المنظومة التعليمية في تونس تعيش أزمة مركّبة عميقة منذ ما يزيد عن العقدين.

أزمة التعليم التونسي على المستوى البيداغوجي

نحن إزاء أزمة ذات ملامح متعددة ومنها:

- الاعتماد على الحفظ والتكرار ما يؤدي إلى تقليص فرص الإبداع والتفكير النقدي لدى التلاميذ والتأثير على المهارات الأساسية لديهم.

- عدم احترام الزمن المدرسي للقدرات الجسدية والصحة النفسية للأطفال والمراهقين.

- تدهور الأداء اللغوي والعلمي للتلاميذ.

- اعتماد نظام تقييم لا يسمح في الغالب بالرسوب والذي يمكّن التلميذ من الارتقاء الآلي من مرحلة إلى أخرى بشكل آلي، وهو ما انعكس سلبًا على مستوى التعليم والمتعلمين.

- تزايد عدد التلاميذ الذين يعانون من صعوبات واضطرابات التعلم لأسباب نفسية ترتبط بأحداث طارئة داخل الفصل (سلوك المعلّم) أو وسط المدرسة (تلاميذ الفصل أو التلاميذ عامة) أو لأسباب فيسيولوجية (صعوبة القراءة/الكتابة).

الدروس الخصوصية الموازية خارج المؤسّسات الرسمية أصبحت جزءًا من الحياة المدرسية في جميع المراحل التعليمية

- انتداب مدرّسين وقتيين مكلّفين بسدّ الشغور في عدد من المدارس رغم افتقار أغلبهم لتكوين بيداغوجي أساسي للقيام بمهمة التدريس، والاعتماد على الانتدابات الهشة (ظاهرة "الأستاذ النائب" نموذجًا) التي أثرت على مردودية المعلم بسبب وضعه المادّي المتدنّي الأمر الذي انعكس على جودة التّعليم ومستوى التّكوين للتلاميذ خاصّة في مواد اللّغات والعلوم.

- الدروس الخصوصية الموازية (أو ما يُطلق عليها بالحقن) خارج المؤسّسات الرسمية التي أصبحت جزءًا من الحياة المدرسية للتلميذ في جميع المراحل التعليمية. فبالإضافة إلى تكلفتها المرتفعة فهي لا تعبّر من ناحية عن الإمكانيات الحقيقية للتلميذ والأخطر أنها تمس من الوضع الاعتباري للمدرّس باعتبار أنها حولت علاقته بتلاميذه إلى علاقة أجير بمؤجر من ناحية أخرى. ورغم محاولات الوزارة إيقاف هذا النزيف بمنشور (المرسوم الحكومي رقم 1619-2015 المؤرخ في 30 أكتوبر/ نشرين الأول 2015) الذي يحظر مثل هذه الممارسة، إلّا أنّ الظاهرة صارت ممارسة ثابتة يحرص الطرفان (الأولياء والمدرّسين) على استمرارها يُبرّرها الأولياء بتحميل المسؤولية للمدرّس، في حين يحمّل المدرّس المسؤولية للوزارة وللأولياء. ومهما يكن الأمر، أصبحت هذه الظاهرة تمثل عبئًا ماديًا على العائلات ذات الدخل المحدود والمتواضع و"نسفت" مبدأ مجانية التعليم كما تُعبّر عن أزمة المنظومة التعليمية وتشكّك أيضًا وإن نسبيًا في "مصداقية" المُدرّس.

- ظاهرة الانقطاع المدرسي المجسّدة في الرسوب والإخفاق، وحسب أرقام الإحصاء المدرسي لوزارة التربية التونسية بين سنتي (2022-2023) غادر نحو 30 ألف تلميذ مقاعد الدراسة بشكل نهائي ونحو تلميذ واحد من بين كل 100 تلميذ يغادر مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية دون اكتساب مهارات القراءة والكتابة، كما يغادر تلميذ من كل عشرة تلاميذ مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية والثانوية (حسب أرقام الإحصاء المدرسي وزارة التربية الدراسية 2022-2023 وحسب تصريح وزير التربية)، وانقطع نحو 109 آلاف تلميذ عن الدراسة خلال السنوات العشرة الأخيرة، من بينهم 69 ألف تلميذ انقطعوا سنة 2021 تزامنًا مع جائحة كورونا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن