لئن بدا الانتباه إلى أهميّة الذكاء الاصطناعي ليس وليد هذه الأيام ببعض البلدان العربية الرائدة من ذلك أنّه عُقد في تونس سنة 1986 مؤتمر دولي حول جدوى الذكاء الاصطناعي ومستقبله تحت إشراف الوزارة الأولى وقتها، وانعقدت بعض الندوات العلمية الأخرى في ذلك الغرض من حين إلى آخر، فإنّ ذلك لم يرتقِ إلى حدّ ترسيخ الوعي الاجتماعي بأهميّته والارتقاء به إلى مستوى الثقافة الاجتماعية التي تصطبغ بها مختلف الأنماط السلوكية الفردية والجماعية. وهو ما يُفسّر القصور في إدراك حقيقة الذكاء الاصطناعي ومجالات استخدامه وحدودها.
غياب مشروع قومي له عناصر مناسبة لحجم التحدّيات التي يواجهها الوطن العربي في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي
ولعلّ من المفارقات المؤكّدة لذلك القصور، النموذج السلوكي الذي قدّمت في ضوئه موظفة عمومية بإحدى الإدارات التونسية تبريرها لاعتدائها اللفظي بكلمات فاحشة على مواطنة ألحّت عليها لتمكينها من وثيقة إدارية بأنّ روّاد شبكات التواصل الاجتماعي قد استخدموا الذكاء الاصطناعي في فبركة صوتها وتوريطها.
يُعدّ ذلك النموذج السلوكي الفهلوي إفرازًا متوقّعًا للتعامل السطحي والدعائي مع الذكاء الاصطناعي. إذ من الواضح أنّ خيار انتهاجه لم يكن سياسة ثابتة ولا استراتيجية واضحة بقدر ما كان تعاملًا مناسباتيًا دعائيًا تستدعيه السلط القائمة ترويجًا لإيديولوجيتها في الانفتاح والحداثة والتحديث بما يُرضي النسق الرأسمالي الكوني، ويسمح بعدم مساءلتها والتضييق عليها في مسائل أخرى مثل الحريات الفردية والجماعية والزبونية والاقتصاد الريعي والمحسوبية والفساد.
تقترن معضلة استخدام الذكاء الاصطناعي بالعالم العربي بالصعوبات التي تواجهها الرقمنة الإدارية مثلًا. إذ تحوّلت الرقمنة غالبًا من تقنية وآلية لتبسيط الإجراءات الإدارية وتكريس الشفافية وتجاوز البيروقراطية إلى مؤشّر جديد من مؤشّرات التخلّف والعبث والعدمية. إذ ما أكثر مواقع التسجيل الإدارية التي تطالب مرتاديها بالتسجيل الرقمي في مرحلة أولى، ثم حمل نسخة من ذلك التسجيل مع رزمة أخرى من الأوراق المطبوعة إلى المصلحة الإدارية التي يقصدها المواطن لقضاء شؤونه مع دفع رسوم مالية إضافية أكثر من التسجيل العادي المعمول به سابقًا.
رفع الذلّ التكنولوجي الذي يشعر به العرب يُعدّ أمرًا ممكنًا إذا توفّرت رؤية سياسية واضحة واعتمادات مالية كافية
إنّ تعثّر عملية الرقمنة التي تعدّ مهادًا ضروريًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل فعّال مثمر لا يرجع إلى عدم كفاءة الموارد البشرية من مهندسين وتقنيين سامين، وإنّما إلى غياب الإمكانيات المادية الكافية التي تيسّر لهم تجويد التقنيات المعتمدة وتطبيقاتها المتعدّدة. وهذا يعود إلى غياب مشروع قومي له عناصر التمكّن المادي واللوجستي المناسبة لحجم التحدّيات الكبرى التي يواجهها الوطن العربي في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي.
وقد صرّح مؤخّرًا الأستاذ الصادق شعبان الوزير التونسي الأسبق للتعليم العالي والبحث العلمي ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية بتونس لمدّة تفوق العقد من الزمن، أنّ رفع الذلّ التكنولوجي الذي يشعر به العرب عقب تتابع اغتيالات رموز المقاومة الفلسطينية واللبنانية باعتماد تقنية الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الدقيقة يُعدّ أمرًا ممكنًا إذا توفّرت رؤية سياسية واضحة واعتمادات مالية كافية، بناءً على تجربته في إدارة المدرسة العليا للبوليتكنيك لمدّة عشر سنوات حيث كان شاهدًا على المستوى المرموق للمهندسين والتقنيين القادرين على التفوّق والابتكار والإبداع التكنولوجي.
المعضلة الأساسية في مدى جدّية الفاعلين في تشكيل أرضية تقطع نهائيًا مع التناول الإيديولوجي للاكتشافات التكنولوجية
إنّ الحاجة اليوم إلى الاستثمار في الصناعات الثقافية معطى مؤكّد مثلما تفصح عنه مختلف المؤشّرات الإحصائية بالولايات المتحدة الأميركية والغرب عمومًا. ومن هذا المنطلق فإنّ تقنين استخدام الذكاء الاصطناعي وتطويره من شأنه الإسهام في توفير رافد جديد من روافد التحصين الذاتي والإقلاع الحضاري.
إذ من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي في خلق تعليم تشاركي وتطويره بيداغوجيًا وأكاديميًا، كما يفتح آفاقا جديدة لتكريس الحوكمة والشفافية من خلال الاقتصاد في استخدام الطاقات وترشيد النفقات وتقسيط المجهودات بما يتلاءم مع كلّ مرحلة وخصوصياتها. بيد أنّ المعضلة الأساسية تظلّ قائمة في مدى جدّية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في تشكيل أرضية ثقافية وسياسية واقتصادية تقطع نهائيًا مع التناول الإيديولوجي لمختلف الظواهر الاجتماعية والاكتشافات العلمية والتكنولوجية المستحدثة ومنها الذكاء الاصطناعي.
(خاص "عروبة 22")