الهيمنة الإلكترونية الأمريكية، أو ما يمكن تسميته بـ"الاستعمار الإلكتروني" الأمريكي ليس خطرًا أمنيًا على أعداء واشنطن فقط مثل إيران وروسيا والصين، بل يمثّل خطرًا أيضًا على أصدقاء أمريكا، والدليل على ذلك ما كشفه مؤسس "ويكليكس" عن تجسس واشنطن على أقرب حلفائها.
الهيمنة الأمريكية الإلكترونية لا تماثلها هيمنة في التاريخ على أي قطاع اقتصادي أو تقني
المشكلة ليست فقط في قدرة واشنطن على اختراق الاتصالات في أغلب دول العالم، بل في احتكار الشركات الأمريكية لمجال البرمجيات الرئيسية في العالم، والذي يعني قدرة واشنطن على التجسس وتوجيه العقول حول العالم إلى ما تريد، والأهم قدرتها على شل المقدرات الاقتصادية والأمنية والعسكرية لأغلب دول العالم، بما في ذلك تخريب الخدمات العامة، بل وإشعال الفتن في المجتمعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إذا أرادت.
إنّ الهيمنة الأمريكية على "السوفت وير" العالمي، أمر فيه خلل بصرف النظر عن الموقف من واشنطن، فإذا كان الاحتكار وهو جريمة كبرى بالعرف القانوني والاقتصادي الأمريكي نفسه، فإنّ الهيمنة الأمريكية الإلكترونية تكاد لا تماثلها هيمنة في التاريخ على أي قطاع اقتصادي أو تقني.
ورغم أنّ الدول العربية أغلبها حليف أو صديق لواشنطن، لكن حتى الحلفاء لا يفترض أن يقبلوا بهذا الوضع، الذي يجعلهم تحت رحمة حليفهم، كما أنّ هذه الهيمنة باتت مصدرًا للاستنزاف الاقتصادي لأنّ عائدات خدمات شركات التكنولوجيا الأمريكية تموّل عبر الموارد الدولارية النادرة للدول العربية غير النفطية.
يجب تبني الخيارات الصينية بجانب الأمريكية وخلق بدائل عربية والاستثمار في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي
وتظهر العقوبات الأمريكية على شركة "هواوي" الصينية والتي أجبرت شركة "غوغل" على وقف تزويد هواتف الشركة الصينية ببرنامج "أندرويد" كيف يمكن أن تستهدف واشنطن أي دولة أو شركة في العالم.
ولقد انتبهت الصين، وبصورة أقل روسيا، لهذه المشكلة، فحاولت خلق شبكاتها وشركاتها الخاصة بعيدةً عن الإنترنت الأمريكي المعولم، وظهر في روسيا مصطلح "الإنترنت السيادي" الذي يستهدف الحد من تأثير المنصات الغربية مع الحفاظ على كفاءة الخدمات المحلية، وقطعت بكين تحديدًا شوطًا كبيرًا في التقنيات الصلبة للتكنولوجيا الحديثة (الهارد وير) وتحاول أن تتحدى الهيمنة الأمريكية في مجال "السوفت وير"، بنجاح أقل، ويرى بعض الخبراء أنّ الإنترنت والتكنولوجيا في العالم يتجهان على المدى البعيد إلى الانقسام لنطاقين أحدهما بقيادة أمريكا والثاني بقيادة الصين.
وهناك حاجة لأن ينتبه العرب لهذا الخطر، وبالتأكيد الدول العربية لا تستطيع أن تتخلى عن التكنولوجيا الأمريكية، ولكن يجب أن تنوع خيارتها بالانفتاح على روسيا وبالأكثر على بكين، وتبني الخيارات الصينية مثل برنامج هواوي "HarmonyOS" المنافس لـ"Android" بجانب الأمريكية لضمان التنويع، (مع الحذر من نزعة بكين للتجسس والهيمنة بدورها)، والسعي كذلك لخلق بدائل عربية مثل بناء صناعة تكنولوجيا محلية وتطبيقات عربية للتواصل الاجتماعي وكذلك في المجالات الحساسة مثل المصارف، والأهم الاستثمار في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، والتعاون مع دول الجنوب العالمي في هذا الاتجاه مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وماليزيا.
وللدول العربية تجربة ناجحة إلى حد ما في مجال مشابه عبر تأسيس "عربسات" كمؤسسة عربية عابرة للأقطار متخصصة في الأقمار الاصطناعية، والدول العربية رغم كل مشكلاتها لديها الإمكانيات لأن تخلق بصمتها في مجال التكنولوجيا، فالإمارات والسعودية لديهما اهتمام خاص بالتكنولوجيا وشركات بارزة في هذا المجال، بينما لدى مصر كوادر بشرية عالية الكفاءة في مجال "السوفت وير"، وهناك دول عربية عدة لديها إمكانيات قابلة للتطوير في هذا المجال مثل المغرب والأردن.
العالم العربي لديه طاقة شبابية هائلة وموارد مالية يمكن الاستفادة منها لبناء نطاقه التكنولوجي الخاص
ولكن الأمر يحتاج إلى إطار تنظيمي عربي، وتوافق بين الدول العربية الرئيسية المالكة للموارد المالية وتلك التي لديها إمكانيات بشرية، مع تشجيع القطاع الخاص على التوسع في هذه المجالات، والسعي للاستفادة من الصراعات بين أمريكا وروسيا والصين لاقتناص أفضل الفرص لنقل التكنولوجيا، وتسير الإمارات وإلى حد ما السعودية ومصر على هذا النهج بشكل أو بآخر.
فالعالم العربي هو إحدى الكتل اللغوية الكبيرة الموحّدة النادرة في العالم ويمثل سوقًا واسعة، كما أنّ لديه طاقة شبابية هائلة وموارد مالية يمكن الاستفادة منها لبناء نطاقه التكنولوجي الخاص، الذي يمكن أن يقع في مسافة وسط بين القطبين التكنولوجيين، الصين وأمريكا، وفي ظل تصاعد التنافس بينهما يمكن للدول العربية إغراء الصين بأن تتيح لها سوقًا بديلًا للسوق الغربية التي تغلق أمامها، وفي الوقت ذاته يمكن الضغط على واشنطن لتحصيل بعض المكاسب منها مقابل كبح الانفتاح على بكين قليلًا.
فبينما يتحول الغرب ومعه الهند لكتلة مغلقة أمام بكين وتتأنى منطقتا جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية في علاقتها معها، تبدو روسيا وإيران وآسيا الوسطى مناطق للنفوذ الإلكتروني والاقتصادي الصيني، كما تقترب أفريقيا من بكين، ويُعد العالم العربي إحدى الكتل القليلة التي ما زالت على علاقة جيدة بالصين وأمريكا على السواء، مما قد يوفر له فرصًا فريدة في تحقيق مكاسب من الطرفين خاصة في المجال التكنولوجي.
(خاص "عروبة 22")