اقتصاد ومال

"نوبل للاقتصاد" 2024: الديمقراطية ودولة القانون أساس "الرخاء"

مُنحت جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام 2024 للثلاثي AJR (Acemoglu /Johnson/Robinson) نظرًا لإسهامهم في تخصص السياسة الاقتصادية المعاصرة بإبراز دور وأهمية النظم (Institutions) في خلق الرخاء الاقتصادي لدى الأمم وهم بذلك تعمقوا في نظرية دوغلاس نورث عن أهمية النظم في النمو الاقتصادي من خلال مناهج نظرية وأمبريقية جديدة. وجاء في بيان لجنة الجائزة أنّ "دراساتهم بيّنت لنا كيفية تشكل النظم وكيف تؤثر على الرخاء". كما كتبت اللجنة أنّ "أعمالهم تساعدنا على فهم لماذا المجتمعات التي تعاني من ضعف سيادة القانون والنظم وتستغل الناس ليس فيها نمو اقتصادي أو تغيير نحو الأفضل".

أعمال الثلاثي الحائز على نوبل في الاقتصاد هذا العام تهم العالم العربي مباشرة الذي يعاني من فروق في الدخل القومي والفردي وضعف النمو الاقتصادي بين البلدان المشكّلة له، وتساعدنا هذه الأبحاث على فهم أهمية وتأثير ضعف النظم (Institutions) الدينا التي تتسبب في عرقلة النمو الاقتصادي. ويقصدون بالنظم في هذه الأبحاث كل الأطر السياسية والقانونية من حماية الملكية الخاصة وسيادة القانون وتقييد الحكومة والعدالة المستقلة ونفاذ القانون والاستقرار السياسي والتشريعي وضمان السلام وهي كلها عوامل تخلق الحوافز لدى الفاعلين الاقتصاديين من أجل الإنتاج والإبداع والتطوير وينعكس ذلك كله في مخرجات تؤدي إلى الرخاء لدى الأمم.

وفي كتباهما الصادر في 2012 تحت عنوان "لماذا تفشل الأمم"، يرى عجم أوغلو وروبنسون أنّ "بعض الدول أكثر ثراءً من غيرها بسبب نظمها السياسية والاقتصادية"!.

انتقال بلد من حالة اللاديمقراطية إلى الحالة الديمقراطية يسهم في رفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي

لقد بيّنت أبحاث الثلاثي الفائز أنّ الفروق الاقتصادية بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة تعود إلى نوعية النظم السائدة في البلدان، فهناك نظم سياسية وقانونية تساعد على النمو وتودي إلى الرخاء، وهناك نظم تقتل الحوافز وتطرد الرأسمال والعمل وتسبب في الكوارث والركود الاقتصادي.

الأمثلة كثيرة على صحة هذه النظرية حول سبب الرخاء الاقتصادي التي اعتمد عليها هذا الثلاثي. فالفروق بين كوريا الشمالية الفقيرة وبين كوريا الجنوبية الغنية ليس بسبب الجغرافيا (المناخ نقسه والموارد الطبيعية نفسها) وليس بسبب الفروق العرقية (شعب واحد)، لكن الفروق بينهم هي في نوعية النظم المتبعة في كليهما. ففي الجنوب لديهم نظام ديمقراطي ودولة قانون وفي الشمال لديهم ديكتاتور يحتكر السلطة والثروة ويوزعها على الموالين. الفرق في طبيعة النظام السياسي والقانوني هو الذي خلق فرقًا في الدخل والرخاء داخل الشعب نفسه الذي يعيش داخل الجغرافيا نفسها لكن تحت نظامين اقتصاديين مختلفين.

من بين مختلف النظم الضرورية للرخاء والنمو يحتل النظام الديمقراطي الذي يقيّد الحكام في السيطرة على الثروة عاملًا نظاميًا أساسيًا في أعمال الثلاثي الفائز، بحيث يؤكدون على أهمية النظام الديمقراطي للنمو الاقتصادي. ومن خلال دراسة اقتصادية توصل عجم أوغلو في مقال معنون بـ"الديمقراطية تسبب النمو" من خلال عينة متكونة من 175 بلدًا من سنة 1960 إلى سنة 2010 أنّ الديمقراطيات لديها دخل فردي من الناتج المحلي الإجمالي أربع مرات أعلى من الدخل في البلدان غير الديمقراطية (2074 دولارًا مقابل 8149 دولارًا) وأنّ انتقال بلد ما من حالة اللاديمقراطية إلى الحالة الديمقراطية يسهم في رفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 20 بالمئة خلال 25 سنة القادمة أكثر من بلد غير ديمقراطي حيث يرتفع الدخل من 2074 دولارًا إلى 2498 دولارًا خلال هذه الفترة.

في كتاب "لماذا تفشل الأمم" الصادر سنة 2012، بيّن المؤلفون أنّ النخب التي تهتم فقط بمصالحها وتنشئ النظم السياسية التي تسمح لها باحتكار الثروة الاقتصادية والسلطة السياسية تعرقل التحوّل إلى الديمقراطية والنمو الاقتصادي. وركّز على اقتصاديات العالم العربي باعتبارها مثالًا جيدًا بهذا الصدد، وفي فترة "الربيع العربي" في 2012 حيث هناك انقسامات بين النخب واللانخب ومن هم من النخب لديهم حماية الدولة، العقود والدعم والرخص والأرض. والدليل أنه يعد سقوط نظام مبارك فقدت الشركات المرتبطة بنظامه الكثير من الأرباح، ويبقى من هم خارج النخب في الهشاشة وهذا يؤخر خلق القطاع الخاص للوظائف وتجد الشركات الصغيرة صعوبة في النمو وتبقى مؤسسات عائلية.

وفي كتابهما "الرواق الضيق"، يشرح عجم أوغلو وروبسون أنه لكي تزدهر حالة الحرية والرخاء لا بد من توفر الحكومة القوية التي توفر دولة القانون والمنفعة العامة والمجتمع القوي الذي يمارس الضغوط من أجل الإصلاح وتقييد تغول السلطة على المجتمع.

ويكتب الثلاثي مقالات تجيب على أسئلة محيّرة ويتم الاستشهاد بها مثل مقالات 2001 و2002 عن اقتصاد المستعمرات والنظم القانونية والسياسية التي أقامها المستعمرون الأوروبيون في البلدان التي استعمروها في أفريقيا وآسيا وأمريكا وكندا. وتبيّن تلك المقالات تأثير تلك النظم الاستعمارية على المخرجات الاقتصادية لتلك البلدان بعد الاستقلال.

نقطة الضعف الاقتصادي العربي ليست في الجغرافيا والثقافة إنما في طبيعة النظم التي تخلق الحوافز أو تقتلها

ومقالات مثل التي عالجت قضايا كبيرة أثارت الكثير من التعليقات والمناقشات والانتقادات المنهجية والنظرية، لكن هذا يدل على أنّ جائزة نويل لم تُعطَ للثلاثي على النتائج التي توصلوا إليها أو الإجابات التي توصلوا إليها ولكن في الواقع لا أحد يمكنه القول إن الإجابات كانت صحيحة 100 في المئة، فالعلم دائمًا يراجع نفسه ليتقدم باستمرار. الأمر يتعلق بالأسئلة المطروحة والأدوات المستخدمة في الإجابات على تلك الأسئلة، كما يقول أحد المعلقين المتابعين على منح الجائزة.

نحن في العالم العربي في حاجة إلى الاطلاع على هذه الكتابات والمقالات وترجمتها واستضافة الحائزين على هذه الجائزة، لأنها تقف على نقطة ضعفنا في العالم العربي وتفسر لنا لماذا منطقتنا ما زال الدخل فيها ضعيفًا بالنسبة لغالبية العرب ولا زال النمو بطيئًا والرخاء بعيدًا عن الأغلبية في المنطقة. نقطة الضعف الاقتصادي العربي ليست في الجغرافيا (الموارد الطبيعة أو المناخ) وليست في الثقافة (العرق والدين) وإنما في طبيعة النظم التي تؤطر الاقتصاد العربي وتخلق الحوافز أو تقتلها. فالنظم مثل دولة القانون وحماية الملكية والسلطة المقيّدة والعدالة المستقلة والاستقرار السياسي والتشريعي وغياب النزاعات والحروب وانتشار السلام والهدوء هي العوامل النظامية الغائبة عندنا وهي سبب تخلّفنا عن باقي الأمم الحرة والغينة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن