سبب استدعاء هاتين الواقعتين المرّتين في تاريخ العرب المعاصر، هو سيل الإدانات المتوالية ضد إنقلاب النيجر. هي مقاربة تفرض نفسها على الرأي العام العربي المُصاب بمتلازمة المقارنات الممنوعة.
لم يتنبّه المتباكون العرب على ديمقراطية النيجر، أنّهم يدينون أنفسهم عمدًا، لأنّ جلّ همّهم منصب في ركوبهم موجة الأمان الكامنة بعدم اعتراض الموج إذا كان عاتيًا، كحالتي صدّام والقذّافي. مع الإطاحة برئيس النيجر تساوقوا مع الموجة ليبقوا بمأمن من غضب الموج وغدره. ويرجّح أنّ الإطاحة برئيس النيجر على يد حرسه الرئاسي أولًا، وانضمام هيئة أركان الجيش ثانيًا، ستدفع راكبي الموجات لتفحّص ولاءات حراساتهم، وإعادة التدقيق بحسبهم ونسبهم، والتخمين في مكبوتاتهم ومكنوناتهم تحوّطًا لانفجارها ذات غفلة غضب مفاجئة.
الغرب يعتبر أنّ خلع مطلق حاكم عربي أو أفريقي هو حق حصريّ لحكومات شفط ثروات الشعوب ونهبها
سبق انقلاب النيجر، انقلابات في مالي وبوركينافاسو وأفريقيا الوسطى حيث طُردت القوات الفرنسية دونما ردّة فعل كالتي حصلت تجاه انقلاب النيجر، التي تذكّرنا بالتحضير لغزو العراق وتدمير ليبيا.
فقد جنّ جنون حكومات الغرب وبعض العرب من إنقلاب النيجر، ليس بسبب نوبة عشق طارئة بالديمقراطية، بل لسبب مفاده، أنّ خلع مطلق حاكم عربي، أو أفريقي، هو حق حصريّ بحكومات الموج العالي المختصّة بشفط ثروات الشعوب ونهبها "كامتيازات قانونية". وقد استخدم الغرب "حقّه الحصري"، نقصد البلطجة الدولية، ضد المذكورين أعلاه كمثال، رغم أنّ ألف باء الديمقراطية، يعطي الحقّ للشعب، مطلق شعب، في خلع حاكمه أو نظامه. فلا سلطة بشرية مهما تضخّمت، فوق سلطة الشعب.
بديهي، أنّ أفريقيا تفتقد للقادة التاريخيين، ولكاريزما جمال عبد الناصر الذي اقتدر أن يجعل من القاهرة عاصمة لكل أفريقيا، التي تفتقر اليوم لأمثال نكروما ولومومبا ونيريري ونلسون مانديلا وأحمد بن بلّله، فضلاً عن القذّافي مؤسّس الاتحاد الأفريقي والحكومة الإتحادية الأفريقية، الذين عاجلهم الناتو فمنع اكتمال صرح بنيانهم الأفريقي الكبير، ودينارهم الذهبي الأكبر.
ورغم الجفاف، يبدو أنّ زرع قادة أفريقيا لم ييبس. فمقولة "أفريقيا للأفارقة" التي صدح بها قادتها الكبار، لم تزل تشكّل البوصلة الحقيقية التي يتبنّاها حرفيًا القادة الأفارقة الجدد. ويرجّح أن فقرة "الوعيد لفرنسا بالحساب" التي أعادها الرئيس الجزائري تبّون إلى النشيد الوطني، قد فعلت فعلها بالأفارقة، وليس فقط بمهاجري الجزائر في فرنسا.
النيجر يُدار عبر قواعد فرنسية وأمريكية رابضة فوق مناجم اليورانيوم والذهب
ولعلّ التوقف أمام حركة التاريخ التي تصنعها أفريقيا اليوم، رغم القواعد الدولية الظالمة، يفصح بوضوح بأنّ حركة الانقلابات الأفريقية تعبير عميق عن موجة تحرّر عارمة، شبيهة بالموجة الناصرية التي اجتاحت أفريقيا، وربما تستكملها اليوم بنصير جديد اسمه فلاديمير بوتين الذي أجاد استثمار علاقات الاتحاد السوفياتي مع حركات التحرّر الأفريقية بشكل أمثل تجلّى في "قمة روسيا - أفريقيا" التي أعفى خلالها بوتين دولًا أفريقية من ديونها البالغة 24 مليار دولار، وقرّر تزويدها بسلال الغذاء والحبوب مجانًا، وعرض لشراكات في التعليم وتأسيس الجامعات وتوطين الصناعات المتطورة، بما يضمن تقدّم أفريقيا وتنميتها، كما أفصحت قمة سان بطرسبورغ تزامنًا مع إنقلاب النيجر.
قبل الانقلاب، لا محلّ للنيجر في نشرات الأخبار إلّا على شكل مهاجرين أو أنشطة إرهابية. فالنيجر رغم مخزوناتها المنجمية وموقعها الاستراتيجي بين الصحراء الكبرى وغرب أفريقيا، بلد مُهمل يُدار عبر قواعد فرنسية وأمريكية رابضة فوق مناجم اليورانيوم والذهب. وبعد طرد القوات الفرنسية من مالي وأفريقيا الوسطي وبوركينا فاسو، تحوّلت النيجر بوصفها قاعدة فرنسا الأخيرة إلى مستودع للقوات الفرنسية المطرودة، سيّما وأنّ جارتها تشاد رفضت الانخراط ضمن الايكواس ضد النيجر، وتبحث عن مخرج مناسب لتموضعها، بما يتسّق وتحالف جيرانها مع روسيا.
في الانقلاب على بازوم، ورغم أنّ العرب أقليّة صغيرة لا تسمح لعربي أن يكون رئيسًا للنيجر. برز عزفٌ نشاز عبر فضائيات عن أصوله (التي ربما تسبّبت بإطاحته)، بهدف حشد عرب النيجر وجوارها خلف رجل فرنسا الجديد. لكنّ الفضائيات إيّاها، غيّبت عن مشاهديها العرب "حملة طرد العرب التي أطلقتها النيجر عام 2006"، وتمكن القذّافي من إيقافها، لتعود قبائل المحاميد العربية إلى ممارسة حياتها الطبيعية في رعاية الإبل والمواشي في موطنها النيجر، مستفيدةً من علاقاتها الإجتماعية مع الجزائر وامتداداتها في ليبيا.
صحيح أنّ بازوم، كان برلمانيًا ووزيرًا للداخلية والخارجية ومستشارًا رئاسيًا، نجح عبر تحالفات قبلية وخصوصًا مع الحزب الحاكم في الجلوس على كرسي النيجر، رغم ما شاب انتخابه من تزوير بحسب معارضيه. لكنّ الصحيح أيضًا أنّ خلفية بازوم واسمه العربي "محمد بوعزوم" والمتحدّر من قبيلة أولاد سليمان المتحالفة مع قبيلة القذاذفة، والمتمركزتين في مدينتي سبها وسرت جنوبي ووسط ليبيا فضلاً عن تشاد، هي ما وفّرت له حظوة وقيمة مضافة سمحت بتدرّجه لدى قيادة النيجر التي تتأثّر خصوصًا بنفوذ الدولة القذّافية.
قائد الحرس الرئاسي استشعر خطرًا يحيكه بازوم ضدّه، عبر استحداثه وزارة خاصة بأمن الرئاسة
خلال عدوان الناتو على ليبيا، لجأ بعض أنصار القذّافي وبينهم ابنه الساعدي إلى النيجر. كما فعل اللواء عبدالله منصور، الشاعر المعروف، وأحد أبرز رموز قبيلة أولاد سليمان في نظام القذّافي. وبقية القصة أنّ النيجر رضخت لضغوط فرنسية أمريكية فسلّمت الساعدي القذّافي لحكّام طرابلس الجدد. وأنّ بوعزوم غدر بدخيله وابن قبيلته عبدالله منصور وسلّمه أيضًا إلى حكومة طرابلس مقابل أثمان مالية، وقضوا في سجونها نحو عشر سنوات. وفيما خرج الأول إلى تركيا، خرج منصور مباشرة إلى النيجر بوساطة بوعزوم، وليشدّ عضده الرئاسي به، عيّنه مستشارًا له.
هدف ما تقدّم، ليس إثبات غدر بازوم، بل الإضاءة على حجم انصياع الرجل للمصالح الفرنسية خاصة والغربية عامة. غدر بازوم بدخيليه، كان محلّ غضب أفارقة يستحضرون هذه الوقائع بعد الانقلاب الذي من أسبابه السيكولوجية تهكّم بازوم على قادة الانقلابات والضباط الذين أطاحوا بفرنسا ونفوذها في مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، كما وبقائد حرسه الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشياني المتخرّج من كلية بوركينا فاسو، والذي استشعر خطرًا يحيكه بازوم ضدّه، عبر استحداثه وزارة خاصة بأمن الرئاسة، أوكلها لشخصية قبلية مكروهة من قيادتي الجيش والحرس، ما أدّى ضمن أسباب أخرى، لإطاحة بازوم، عزّزه اصطفاف قيادة الجيش مع الحرس الرئاسي.
انقلاب النيجر إذن، أخذ أبعادًا دراماتيكية، سيّما بعد تهديد منظمة "الإيكواس" بالتدخل عسكريًا وتغطية التدخل الأجنبي (على غرار الجامعة العربية مع ليبيا وغيرها)، ما دفع قادة الانقلاب لإيقاف تصدير اليورانيوم لفرنسا. وما دفع أيضًا، قادة بوركينا فاسو ومالي وغينيا كوناكري لرفض عقوبات وتهديدات الإيكواس، وإعلانهم أنّ الحرب على النيجر، هي حرب عليهم.
وفي صلية موجعة، أوقف رئيس بوركينا فاسو ابراهيم تراوري تصدير اليورانيوم والذهب لفرنسا، وأطلق موقفًا ثوريًا مفاده "انتهى زمن العبودية في أفريقيا، ولن نسمح بغزو النيجر، إمّا الوطن وإمّا الموت".
الحرب إذا ما اندلعت لن تقف عند حدود النيجر... ويرجّح أن تطال تداعياتها دواخل عربية وأفريقية واستكمال الطوق حول الجزائر
جرعة الدعم الثلاثي التي تلقّاها قادة انقلاب النيجر، تعني أنّ لا عودة لما قبل الانقلاب. واستراتيجيًا تعني أنّ روسيا دخلت على خط النيجر التي طلبت علنًا مساعدة فاغنر. وهو ما سبق ودفع فرنسا وأمريكا والغرب عامةً لإجلاء رعاياهم، دون قواعدهم الرابضة فوق مناجم اليورانيوم والذهب، ما يعني مشاركتها في الحرب مع جيوش الإيكواس التي استُهلت عقوباتها على النيجر بقطع نيجيريا الكهرباء. واستُتبعت بتعليق البنك الدولي لتمويلاته في النيجر.
إذن، اليورانيوم وليس أصول بازوم، بيت قصيد الحرب، التي إذا ما اندلعت لن تقف عند حدود النيجر التي تعتبر الشريان الوريدي لجماعات الإرهاب، وعبور المهاجرين، وتجارة المخدرات والسلاح. ويرجّح أن تطال تداعياتها دواخل عربية وأفريقية متشابكة مع حرب السودان ومتناسلة منها ومتصلة بها كليبيا وتشاد. ومن شأن ذلك إستكمال الطوق حول الجزائر القوّة الاستراتيجية المشكّلة لمنصّة تحوّلات أفريقية كبرى، والمهدّدة بجوار يخترق بعضه الإرهاب، ويفتح بعضه ذراعيه للتطبيع مع "إسرائيل"، ما دفع الجيش الجزائري للإنتشار عند حدوده مع النيجر.
"إنقلاب اليورانيوم" في النيجر بتداعياته العربية والدولية، وارتداداته الأفريقية في أبيدجان والتوغو وبنين والسنغال المصابة بارتفاع الكورتيزول الأمني والسياسي بسبب اعتقال زعيم المعارضة الموالي لروسيا، فواعل ستسهم عبر مخاضها الدامي في بلورة الاشتباك الدولي المتناسل من الحرب في أوكرانيا والمفتوح على تشكّل القطبيات الجديدة.
(خاص "عروبة 22")