تقدير موقف

معركة "الأمن المائي" في العالم العربي (2/2)استراتيجيات طموحة لمواجهة أزمات الحاضر وتحديات المستقبل!

تواجه منطقة العالم العربي تحديات كبيرة في ما يتعلق بالأمن المائي، بسبب ندرة الموارد المائية وتزايد الطلب عليها نتيجة النمو السكاني، والتحضر، والتغيّرات المناخية، والنزاعات الإقليمية. ويشكل هذا الوضع تهديدًا مباشرًا للاستقرار والتنمية المستدامة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ازدياد آثار تغيّر المناخ وتزايد الضغط على الموارد المائية، يصبح من الضروري وضع استراتيجيات قُطرية وإقليمية للحفاظ على الموارد المتاحة وتعزيز الأمن المائي في المستقبل.

معركة

تسعى الدول العربية إلى تعزيز أمنها المائي، سواء على صعيد كل دولة على حدة أو في شكل تعاوني وتكاملي في ما بينها، ولا سيما منها الدول المتجاورة، قد تكون نظرة إلى المجريات العالمية في هذا الإطار مفيدة. فالدول المتقدمة والمتطورة تتبع استراتيجيات شاملة تتسم بتكامل بين التكنولوجيا والسياسات العامة، يعتمد على الابتكار في إدارة الموارد المائية. وتختلف هذه الاستراتيجيات باختلاف احتياجات كل منطقة، لكنها تشترك في الاعتماد على تعزيز كفاءة استخدام الموارد المائية والحفاظ على جودتها.

في الولايات المتحدة، مثلًا، تواجه ولايات عديدة مثل كاليفورنيا وأريزونا نقصًا حادًا في المياه، نتيجة الجفاف وتزايد الطلب على المياه بسبب النمو السكاني. لتجاوز هذه الأزمة، تبنت كاليفورنيا استراتيجيات متعددة تعتمد على إعادة تدوير المياه وتحسين تكنولوجيات الري، بالإضافة إلى فرض سياسات صارمة للحد من هدر المياه.

التعاون الدولي جزء من استراتيجيات الأمن المائي في أميركا الشمالية وتعتمد أوروبا على الإدارة المتكاملة للموارد المائية

أما نهر كولورادو، الذي يقطع مسافة ألفين و333 كيلومترًا تقريبًا ويوفر المياه لسبع ولايات في غرب الولايات المتحدة تُعَد جزءًا من حوض النهر، فتتقلص مياهه بسبب انحسار كميات الثلوج التي تحتفظ بها الجبال حيث يتغذى بالمياه. ويُعَد هذا المثال دليلًا على دور تغيّر المناخ سلبيًا في تهديد الأمن المائي. وتشمل الاستراتيجيات التي تطبقها الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات لحل المشكلة الحد من استخدام المياه، وتحديث البنية التحتية، وتوسيع الغابات، والاستفادة من التضاريس لتقليل أضرار الفيضانات وتنقية المياه وتخزينها، والحفاظ على التدفق الصحي للجداول والأنهار التي تصب في نهر كولورادو.

ويُعَد التعاون الدولي أيضًا جزءًا من استراتيجيات الأمن المائي في أميركا الشمالية. مثلًا، هناك تعاون مشترك بين الولايات المتحدة والمكسيك لإدارة الموارد المائية العابرة للحدود، ولاسيما تلك التي تغذي نهر كولورادو، الذي يُعتبَر مصدرًا مهمًا للمياه لكلتا الدولتين. يُذكَر أنّ حوض النهر ينقسم إلى منطقتين: الحوض العلوي ويشمل ولايات كولورادو ونيومكسيكو ويوتا ووايومنغ، والحوض السفلي ويشمل ولايات أريزونا وكاليفورنيا ونيفادا. ويصب في خليج كاليفورنيا الواقع في المكسيك، ذلك أنّ كاليفورنيا الجغرافية تتوزع بين عليا تقع في الولايات المتحدة وسفلى تقع في جارتها الجنوبية.

في أوروبا، تعتمد الدول على الإدارة المتكاملة للموارد المائية التي تأخذ في الاعتبار آثار التغيّر المناخي. تُعَد الزراعة والصناعة من أكثر القطاعات استهلاكًا للمياه في الاتحاد الأوروبي، ولهذا السبب تبنت الدول الأوروبية سياسات تهدف إلى تحسين كفاءة استخدام المياه في هذه القطاعات، بالإضافة إلى تعزيز الاعتماد على تكنولوجيات إعادة تدوير المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي. علاوة على ذلك، تعزز الدول الأوروبية التعاون الإقليمي في إدارة الموارد المائية المشتركة. يُعَد نهر الدانوب مثالًا على التعاون الناجح بين دول عديدة لضمان توزيع عادل ومستدام لموارد المياه. وتوفّر هذه الاتفاقيات إطارًا قانونيًا للدول المشاركة لتطبيق معايير مشتركة للحفاظ على جودة المياه وضمان استخدامها المستدام.

أمام الهند وباكستان تحديات تتعلق بتقاسم المياه ولا مناص للبلدين من إبرام اتفاقيات ثنائية

الهدف العام لسياسة المياه في الاتحاد الأوروبي هو ضمان الوصول إلى مياه ذات نوعية جيدة بكميات كافية للأوروبيين جميعًا والقطاعات الاقتصادية كلها من دون الإضرار بالبيئة، وضمان الوضع الجيد للمسطحات المائية في أنحاء أوروبا كلها. ومع ذلك، سيواجه الاتحاد الأوروبي في شكل متزايد، بسبب تغيّر المناخ، ظروفًا حادة في مجال الطقس ذات صلة بالمياه، مثل الفيضانات والجفاف، لذلك يعكف الاتحاد الأوروبي على تبني سياسات إضافية للمساعدة في التخفيف من حدة هذه الظروف والتكيف معها. وتحقيقًا لهذه الغاية، أنشأ الاتحاد الأوروبي إطارين قانونيين رئيسيين لحماية موارد المياه العذبة والبحرية وإدارتها: التوجيه في شأن إطار المياه والتوجيه في شأن إطار الاستراتيجية البحرية.

إضافة إلى ذلك، تعاني آسيا من تحديات مائية مشابهة لتلك التي تواجهها منطقة العالم العربي، إذ تشهد الهند وباكستان والصين مشاكل كبيرة في إدارة موارد المياه. في الهند، تعتمد السياسات على تحسين تكنولوجيات الري وإعادة تدوير المياه، بالإضافة إلى تحسين البنية التحتية لتقليل الهدر في استخدام المياه. وأمام الهند وباكستان تحديات تتعلق بتقاسم المياه، ولا سيما في ما يتعلق بنهر السند، الذي يمثل مصدرًا رئيسيًا للمياه لكلا البلدين. ومع ذلك، لا مناص للبلدين، كما لغيرهما، من إبرام اتفاقيات ثنائية حول تقاسم المياه، فهي أداة فاعلة لتجنب النزاعات وضمان الاستخدام المستدام للموارد.

بالمقارنة مع الاستراتيجيات الدولية، يمكن القول إنّ الدول العربية تحتاج إلى تكثيف جهودها في تحسين كفاءة استخدام المياه والاعتماد على الابتكار التكنولوجي، ناهيك عن التعاون والتكامل الإقليميَّين. ففي حين تعتمد العديد من الدول المتقدمة على إعادة تدوير المياه وتكنولوجيات التحلية كجزء أساسي من استراتيجياتها، لا تزال الدول العربية بحاجة إلى تعزيز الاستثمار في هذه المجالات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تستفيد الدول العربية من تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لضمان إدارة أفضل للموارد المائية المشتركة، ولا سيما في ظل التحديات التي يفرضها التغيّر المناخي.

الأمن المائي يمثّل تحديًا كبيرًا للعالم العربي وهناك حاجة مُلحة لتعزيز التعاون الإقليمي وتبني حلول مبتكرة

وتُعَد مشاريع إعادة تدوير المياه وتحلية مياه البحر وتكنولوجيات الري الحديثة من بين أهم الحلول التي يمكن أن تتبناها الدول العربية لتحسين أمنها المائي. ومع ذلك، يتطلب تحقيق النجاح في هذا المجال تعاونًا أكبر بين الحكومات والقطاع الخاص، وبين الدول وقطاعاتها الخاصة، بالإضافة إلى تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على الموارد المائية.

يمثل الأمن المائي تحديًا كبيرًا يواجه العالم العربي والعالم بأسره. تتطلب مواجهة هذا التحدي تبني استراتيجيات شاملة تعتمد على الابتكار، والتعاون الإقليمي والدولي، وتحسين كفاءة استخدام الموارد. وبينما تبذل الدول العربية جهودًا لتحسين إدارة مواردها المائية من خلال مشاريع التحلية وإعادة التدوير، تظل هناك حاجة مُلحة لتعزيز التعاون الإقليمي وتبني حلول مبتكرة لمواجهة الضغوط المتزايدة على الموارد المائية. فالدول العربية، من خلال تطوير سياسات مائية شاملة وزيادة الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية، يمكنها تحقيق استدامة مائية تضمن تلبية احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن