تقدير موقف

"الديماغوجيا" وإعاقة التكامل العربي

تًعرف الديماغوجيا في معناها العام بمناقضتها للتفكير النقدي ومناهضتها للخطاب العقلاني الذي ينظر إلى الظواهر الاجتماعية والحضارية من زوايا متعدّدة. إذ هي رديف الدغمائية والوثوقية والغوغائية رغم الالتفاف الكبير الذي تحظى به غالبًا من عموم الجماهير بحكم تطوّرها إلى حدّ أضحت فيه استراتيجيا تواصلية سياسية تنتهج مختلف المناورات الخطابية والمكائد السياسية في التأثير والتحكّم والتوجيه للوصول إلى السلطة والاستمرار فيها.

تخترق الديماغوجيا المجال العمومي العربي في أكثر من مستوى. فعلى صعيد الخطاب تهيمن الخطابات القصووية التي تحصر القضايا ضمن ثنائيات تجاوزها منطق الزمن المعاصر ومحرّكات التاريخ الراهن. إذ تطغى التعابير الإنشائية والصيغ البلاغية الرنّانة وعبارات الوعد والوعيد، وتغيب أو تكاد أفعال الإنجاز والبناء والتشييد. وهي معطيات تفسّرها طبيعة المنطق الاتّهامي المتحكّم في تلك الخطابات القصووية وما تفرّع عنها من تعمّد تصدير الأزمات إلى الآخرين وتحميلهم وحدهم مسؤولية الأزمات المتفاقمة داخليًا، والفشل في الخروج منها وتجاوزها.

الديماغوجيا تشكّل خطرًا جسيمًا على المشاريع المستقبلية وهو ما يفسّر سرعة تعثّر التجارب الوحدوية العربية

لم تكن الديماغوجيا الخطابية التي تتعمّد دغدغة مشاعر الشعوب بشعارات برّاقة ووعود عرقوبية إلاّ السطح الذي يحجب عديد الاختلالات الهيكلية والبنيوية العميقة على مختلف الأصعدة التي تتجلّى عادة في مجال الممارسة. فعلى مستوى خيار السياسات العامّة كثيرًا ما تفضي الديماغوجيا إلى ارتجالية في القرارات وتسرّع في الاختيارات. لذلك قد يصدر القرار ونقيضه في آن معًا دون أيّة مبرّرات أو مسوّغات مقنعة. وهو ما ينعكس بوضوح في تشكّل مفارقة الظاهر والباطن أو الوجه والقفا أو القول والممارسة. إذ يوجد بون شاسع يفصل بين الشعارات المرفوعة التي توهم بالخلاص الفوري والنهائي من الاستبداد والتبعية والفساد، وواقع الأمور ومجرياتها التي تزداد تعقيدًا وقساوةً وقتامةً أكثر ممّا كانت عليه سابقًا.

ولئن كانت الديماغوجيا بالعالم العربي لا تتوانى لحظة واحدة عن رفع سقف الطموحات وكسب التحدّيات، فإنّ التجربة التاريخية المعاصرة والراهنة غالبًا ما بدّدت تلك الآمال وخيّبتها. إذ - على النقيض من ذلك - انحسرت المبادئ الكبرى التي تستند إليها النظم الحديثة مثل الكفاءة والحوكمة والشفافية والنزاهة، وسعت إلى التضليل عن ذلك الانحسار والتغطية عليه بالدعاية ومختلف الحيل الخطابية والألاعيب السياسية.

مشروع التكامل بحاجة ماسّة إلى دعائم مادية متينة مرتبطة باستراتيجيات عمل مدروسة

ولمّا كانت مشاريع التكامل أو الوحدة لا يمكن أن تتمّ إلا على أسُس صلبة متينة بناءً على حقائق الواقع المتسارع وإفرازاته، فإنّ الديماغوجيا تشكّل خطرًا جسيمًا على تلك المشاريع المستقبلية. وهو ما يفسّر سرعة تعثّر مختلف التجارب الوحدوية التي عرفتها المنطقة العربية سواء مع الجمهورية العربية المتّحدة بعد الوحدة بين مصر وسوريا من سنة 1958 إلى سنة 1961، أو الجمهورية العربية الإسلامية بعد إعلان الوحدة التونسية الليبية سنة 1974. إذ لا تكفي الشعارات أو النوايا وحدها لإرساء مشروع التكامل على سكّة صحيحة بحكم حاجته الماسّة إلى دعائم مادية متينة، مرتبطة باستراتيجيات عمل مدروسة وبسيناريوات متعدّدة لتأمين العبور السلس نحو آفاق أرحب من التعاون والتكامل بين الدول العربية وتجاوز التحيّزات الضيّقة.

لعلّ من أفدح الأخطار المترتّبة عن الديماغوجيا تسبّبها في تكلّس الحياة السياسية وقحطها بما أنّها لا تقيم وزنًا لقيم المغايرة والاختلاف، وبحكم أنّ نظرتها الإطلاقية السكونية تقوّض كلّ أشكال التفكير النقدي القائم على النسبية والسببية والمعقولية. فتتسبّب من حيث لا تدري في انبعاث النزعة الماضوية بمقولاتها ما قبل الدولة الحديثة. وهو ما يفضي إلى تصدّعات اجتماعية وردّة حضارية باعتبار أنّ الطبيعة تأبى الفراغ، وفي غياب التناول الابستمولوجي لمختلف الإشكاليات والقضايا المطروحة تبرز النزعة الماضوية لتملأ ذلك الفراغ دون الانتباه إلى خطورة الهوّة السحيقة التي ارتمت فيها المجتمعات العربية.

تجاوز الديماغوجيا شرط ضروري نحو الحداثة السياسية بمفهومها الذي يجعل منها قاطرة نحو نهوض عربي

وبهذا المعنى، فإنّ انتشار اللامعقول السياسي بالعالم العربي وتحوّله إلى علامة بارزة مميّزة في محيطه الإقليمي والدولي لم يكن صدفة أو وليد مؤامرة مثلما تصرّ على ترويجه الخطابات القصووية، وإنّما يشكّل إفرازًا حتميًا لجملة الاختلالات الفكرية والعملية التي لم تزدها النكسات والمحن المتلاحقة إلاّ استفحالًا في ظلّ عزوف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين بالمنطقة العربية عن مباشرة مراجعات معمّقة موسّعة.

لا يُعدّ تجاوز الديماغوجيا معطى تقتضيه مستجدّات المرحلة التاريخية وتحدّياتها فحسب، وإنّما كذلك شرط ضروري نحو الحداثة السياسية بمفهومها الذي يجعل منها قاطرة نحو نهوض عربي طال انتظاره.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن