يلفت انتباهنا في الأسطر الأولى من التمهيد أمران، الأول قوله: "إنني كنت أتألم كثيرًا من ملاحظة آثار التشتت والبلبلة التي إعتورت الثقافة في البلاد العربية، في عصر انبعاثها الأخير نهضتها الحديثة". والأمر الآخر قوله: "إني أعتقد أنّ توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيّئ سائر أنواع التوحيد. وأقول بلا تردد "اضمنوا لي وحدة الثقافة وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة". وهذه الملاحظات التي أثارها في التمهيد إنما ترجع إلى عام 1938 في خطاب وجهه إلى طه حسين عبر مجلة الرسالة المصرية.
وكما نعلم فإنّ ساطع الحصري (1879-1968) كان عمل في الإدارة العثمانية بعد تخرّجه من المعهد الملكي في إسطنبول. وقد شغل وظائف في سلك التعليم ووصل إلى منصب مدير دار المعلمين، قبل أن ينتقل إلى دمشق عام 1918، وينضم إلى الحكومة العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين. ويكلّف بوزارة المعارف، وقد أثارت مواقفه ومناهجه انتقادات المحافظين. كما أثارت المحافظين في العراق حين انتقل اليها بعد أن أصبح فيصل ملكًا على العراق. واستمر ساطع الحصري في اعتنائه بمسائل التربية حين انتقل إلى سوريا ومن بعدها إلى مصر، حيث عمل عميدًا لمعهد الدراسات العربية العليا.
يصعب وضع حدود أمام الزخم الثقافي الغربي في الوقت الذي نشهد فيه تراجع مستويات التعليم في العالم العربي
من هنا يمكن أن نفهم إلحاحه على الجانب التربوي في مسألة الثقافة والوحدة الثقافية العربية، ففي تلك الفترة التي عمل فيها بين سوريا والعراق ومصر، أي منذ بداية العشرينات وحتى ستينات القرن العشرين، كانت هذه الدول في طور بناء الدولة الوطنية المستقلة وبناء مناهجها التربوية عبر الأجهزة والمعاهد والإدارات المختصة.
وفي عرضه لمفهوم الوحدة الثقافية يعالج المسائل عبر ثنائيات: الدولة والأمّة، فالدولة ليست تعبيرًا مطابقًا عن الأمّة التي تحددها لغة وثقافة واحدة.
كما يتناول ثنائية الثقافة والحضارة. ويرى أنّ الحضارة مفهوم أشمل من الثقافة، ولهذا فإنه يتبنى المفهوم الشائع للثقافة التي تعني المسائل التعبيرية وليس المفهوم الأنتروبولوجي الواسع، اما الحضارة فتتناول الجوانب المادية.
ومن بين الثنائيات التي نستخرجها من خلال سجالاته التكيّف والتنوّع. فالمناهج التربوية لا بدّ أن تتكيف مع خصوصيات معينة قائمة في البلد الواحد، إلا أنه يرفض مفهوم التعدد الثقافي.
إحدى المفاهيم التي يطرحها في مفهوم الاستقلال الثقافي، ويقصد بذلك تحرير الثقافة من الآثار الاستعمارية. ويوضح في محاضرة في جامعة دمشق عام 1944: "الاستقلال الثقافي لا يعني كراهية الأجنبي، ولا يتضمن قطع العلاقات مع الأجانب، بل إنما يعني تنظيم شؤون البلاد وتوجيه سياستها حسب ما تقتضيه مصالح الأمّة، لا حسب ما يطلبه أو يفرضه الأجنبي". ويضيف أنه "لا يعني كراهية الثقافات الأجنبية، ولا يتضمن قطع العلائق مع الثقافات الأخرى، وإنما يعني ثقافة البلاد وتوجيهها حسب ما تقتضيه مصالح الأمّة ونزعاتها الخاصة".
وإذا اكتفينا بهذا المقدار من آراء ساطع الحصري، أمكننا القول بأنه كان رائدًا في فهمه للمسألة القومية، فقد بناها على أُسُس ثقافية واجتماعية، كما نعلم من خلال مؤلفاته الأخرى. والقومية عنده ليست معطى من الماضي صنعه الأجداد وإنما هي بناء متواصل عبر التربية والمناهج الحديثة.
لكن كل ذلك لا يمنعنا من ملاحظة بديهية وهي أنّ هذه الأفكار والآراء إنما تنتمي إلى النصف الأول من القرن العشرين في فترة صعود الفكر القومي في أوروبا خصوصًا والعالم قاطبة، وفي العالم العربي الذي كان يجابه تعددًا في الدول والأقاليم والعادات، وكانت التربية المدرسية هي الأداة الوحيدة لتثقيف العالم، إضافة إلى المجلات الثقافية التي تتوجه إلى الخاصة والنخب التي كان لها تأثيرها في العامة.
نجابه اليوم عالمًا تخطى الوسائط الإذاعية والمرئية (الراديو والتلفزيون) التي طغى تأثيرها في النصف الثاني من القرن العشرين. وتتلقى الناشئة تأثيرات تتخطى حدود اللغات والثقافات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في وقت صار يصعب وضع حدود وحواجز أمام الزخم الثقافي الذي يأتي من العالم الغربي خاصة. في الوقت نفسه الذي نشهد فيه تراجعًا في مستويات التعليم في كل العالم العربي وفي كل المستويات من الابتدائي وحتى الجامعي، مع ميل لدى الحكومات لإعطاء الأولوية للمواد العلمية على المواد الأدبية والاجتماعية والفلسفية، علمًا بأن بلدانًا عربية عديدة ألغت من مناهج التعليم مواد الفلسفة والاجتماع وعدم إيلاء الآداب الاهتمام الكافي وانصراف الطلاب عنها.
اللغة العربية هي العامل الأساسي في وحدة الثقافة العربية
نحتاج إذًا إلى نظريات جديدة بخصوص مسألة الوحدة الثقافية العربية. تأخذ بالاعتبار كل التطورات الهائلة التي شهدتها الحقبة المنصرمة التي تزيد على نصف قرن من الزمن. لقد تغيّر العالم وتغيّرت مفاهيم الثقافة والمجتمع والتنوع والتعدد، وصارت الأولوية للتعدد على الوحدة وأزيلت الحدود والحواجز بين الأمم والأقاليم وقد أصبحت الصورة أبلغ تأثيرًا ودلالة من الكلمة واللغة.
لكن كل ذلك لا يلغي التأكيد على أنّ اللغة العربية هي العامل الأساسي في وحدة الثقافة العربية، ومن هنا ضرورة العمل على تحديثها وضرورة العمل على تفاعلها مع العلوم والأفكار المعاصرة، مع العلم بأنها جزء مكوّن من تراث الإنسانية.
(خاص "عروبة 22")