تقدير موقف

الدول والمجتمعات بين الازدهار والشقاء

قبل أيام أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية ذهاب الجائزة السنوية لنوبل في الاقتصاد لعام 2024 إلى فريق يتكوّن من ثلاثة علماء اقتصاديين تجنّسوا بالجنسية الأمريكية ويعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية ويعملون بجامعاتها، وهم: دارون عاصم أوغلو، من أصل تركي، وجيمس روبنسون وسيمون جونسون البريطانيين، لدراستهم الموسعة التي حملت إضاءة جديدة حول العلاقة بين المؤسسات والرخاء في الدول والمجتمعات المختلفة على مدى الأزمنة المتعاقبة وكيف تنجح  - تخفق البُنى المؤسسية في تحقيق الرخاء والتقدّم والديمقراطية.

الدول والمجتمعات بين الازدهار والشقاء

يُحسب للقائمين على نوبل للاقتصاد هذا العام، إضافة إلى منحهم الجائزة لاقتصاديين نقديين للنظام الاقتصادي العالمي/الأمريكي وتطبيقاته المعاصرة، ومن ثم اللحاق بأقرانهم من الاقتصاديين النقديين الذين حصلوا على نوبل مثل: "أمارتيا سِن"، و"جوزيف استيجليتز"، و"بول كروجمان" وغيرهم، أقول سيُحسب لنوبل للاقتصاد، هذا العام، أنها كللت جهود الثلاثي الاقتصادي الذين جددوا الأخذ بمنهج الاقتصاد السياسي منذ كتابهم الأول الذي قام بتأليفه "أوغلو" وروبنسون" من خلال مؤلفهما التأسيسي المشترك: "الأصول الاقتصادية للديكتاتورية والديمقراطية" (2006). والذي أعده امتدادًا للمجلد المرجعي المعتبر الذي وضعه عالم الاجتماع السياسي الأمريكي "بارينجتون مور"، الابن (1913 ــ 2005)، كبير باحثي مركز الأبحاث الروسية في جامعة هارفارد الأمريكية: الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: السيّد والفلّاح وصناعة العالم الجديد" (1966). إذ واصل "اوغلو" وشريكه جهد "مور" في رصد وتتبع وتحليل المسارات السياسية تاريخيًا في العديد من السياقات في ضوء منهج الاقتصاد السياسي.

يولي الاقتصاد السياسي اهتمامًا كبيرًا لدراسة موازين القوة

يتسم هذا المنهج، كلاسيكيًا، بالربط بين الاقتصاد، والسياسة، والسياق الاجتماعي، والأيديولوجيا. أي أنه لا يتوقف عند التقنيات الاقتصادية والمالية بمعادلاتها، ومنحنياتها، وجداولها، وإحصاءاتها، ومصفوفاتها. فهناك، ما يشبه الإجماع على أنّ الاقتصاد السياسي في صورته الكلاسيكية لم يزل النهج الأفضل في تحليل الإشكاليات الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي بتجلياته أخذًا في الاعتبار التطور الاجتماعي والسياق السياسي والمنظومة الثقافية المواكبة لتلك الإشكاليات. إذ يولي الاقتصاد السياسي اهتمامًا كبيرًا لدراسة موازين قوة كل من: القوى الاجتماعية/الطبقية، والبنى السلطوية المختلفة، والتنظيمات المدنية/الأهلية. كذلك التقاطعات الصراعية والتوازنية بين كل ما سبق، وتاريخها صعودًا وهبوطًا، ومستقبلها.

بلغة أخرى يتميّز الاقتصاد السياسي في طبعته الكلاسيكية بأنه يقارب الظواهر الاقتصادية في إطار علاقة لا تفرق بين تلك الظواهر وبين الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية المواكبة لها. ويساعد هذا النهج في تناول الإشكاليات على مدى تاريخي ممتد. إذ يؤصل لها، ويحلل واقعها بأبعادها المتنوعة، ومن ثم استشراف ما سوف تؤول إليه مستقبلًا.

وقد واصل "أوغلو" مع "جونسون"، هذه المرة، الجهد البحثي التأسيسي الذي أطلقه "أوغلو" و"روبنسون" في 2006، من خلال مؤلفهما المشترك الذي صدر منتصف العام الماضي في 600 صفحة: "القوة والتقدم: صراعنا على التكنولوجيا والرخاء خلال ألف سنة". حيث أخذا في الحسبان ما جد من قفزات مطردة في المجال التقني منذ العصور الوسطى وحتى زمن الذكاء الاصطناعي، وما ترتب على تلك القفزات من تداعيات على أصحاب السلطة/الأغنياء - القلة - من ناحية، والفقراء/من هُم خارج السلطة - الأكثرية - من ناحية أخرى، وذلك اقتصاديًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا. وبين كتابي 2006 و2023 أنجز "أوغلو" مع "روبنسون" كتابين هما: الأول: "لماذا تفشل الأمم؟: أصول السلطة، والازدهار والفقر" (2012). والثاني: "الممر الضيق: دول ومجتمعات ومصير الديمقراطية" (2019).

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ كتابًا واحدًا فقط من الكتب الآنفة الذكر قد ترجمت إلى العربية ألا وهو كتاب: لماذا تفشل الأمم؟؛ وذلك عام 2015. وربما يعود الاهتمام بترجمته إلى أنّ مقدمته قد قاربت مصر يناير 2011، بالرغم من أنّ الأحد عشر فصلًا التي يتشكل منها الكتاب قد تناولت العديد من السياقات الاقتصادية الجغرافية والسياسية في أزمنة تاريخية مختلفة. 

وبغض النظر عن أية ملاحظات فنية، أو انتقادات منهجية قد وجهت لفريق اقتصاديي نوبل الثلاثة؛ فإنّ ما أنفقه الباحثون من وقت لإنجاز مساهماتهم في دراسة لماذا تحقق بعض الدول/المجتمعات التقدم - الديمقراطية من جهة، مقابل التخلف - الاستبداد في الكثير من الدول/المجتمعات من جهة أخرى، قد أوصلهم إلى تحقيق ثلاثة اكتشافات علمية مركبة غاية في الأهمية:

الكشف الأول: الدينامية التي تحكم حركية المؤسسات ونظمها وتنظيماتها في: "تفعيل الرخاء أو تعطيله".

الكشف الثاني: آليات الإتاحة والإعاقة للتوزيع العادل للثروة - الموارد - المنافع العامة للبلاد وتقاسمها بين جميع المواطنين دون تمييز.

الكشف الثالث: جدلية علاقات القوة بين السلطة/الطبقة الحاكمة (القلة) وبين المحكومين (الأغلبية من المواطنين) وأثر ذلك على ديمقراطية ولا ديمقراطية السياسات التي يتم وضعها لإدارة شؤون الدول والمجتمعات.

ثقافة موسوعية نجحت في تقديم منهج يجيب عن سؤال مصيري: لماذا تتخلف دول/مجتمعات وتتقدم أخرى

استدعى الوصول إلى تلك الكشوفات مقاربة العديد من المساحات المعرفية في: التاريخ، والحضارة، والثقافة، والتكنولوجيا،...،إلخ، وبالطبع الاقتصاد. كذلك تناول الكثير من المفاهيم والإشكاليات مثل: علاقات القوة، وعلاقات الإنتاج، والطبقات، والنخبة/النخب، وبنى المجتمع، ومؤسسات الدولة، التكامل الاقتصادي/المالي والسياسي، سياسات التوزيع والدخل والرفاه، والاستبداد، والصراع، والحقبة الاستعمارية وتداعياتها على دول العالم، والتطور التكنولوجي،...،إلخ. 

الخلاصة، ما سطره "أوغلو وروبنسون وجونسون" جدير بالقراءة - ومن ثم الترجمة - لما تضمنته آلاف السطور من معلومات وتجارب حول العديد من الدول/المجتمعات منذ القدم وحتى وقتنا الراهن، كذلك ما توصلوا إليه من أفكار واستخلاصات كشفت عن ثقافة موسوعية تتجاوز الاقتصاد ونجحت في تقديم منهج يجيب عن سؤال مصيري: لماذا تشقى وتتخلف دول/مجتمعات وتزدهر وتتقدم أخرى. ويمكن عندئذ إدراك ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد في واقعنا العربي المعاصر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن