بصمات

"حرب طروادة": لا جيوش عظيمة تنتصر ولا جماعات ضعيفة تندحر!

في الإلياذة لهوميروس، تدور أحداث الأسطورة القديمة حول الصراع بين "أخيل" و"هكتور"، أخيل الذي كان يتمتع بقدرات شبه إلهية تجعله محاربًا لا يُقهر تقريبًا، وذلك يعود جزئيًا إلى والدته "ثيتيس" التي كانت إلهة البحر وسخرت كل قواها الخارقة لحماية ابنها من الموت منذ ولادته، فأعطته حصانة جسدية ومهارات قتالية خارقة، جعلت من الصعب على أعدائه قتله في المعارك، كما أنّ الآلهة تدخلت أحيانًا بشكل غير مباشر لحمايته، على عكس هكتور الذي هو إنسان وبطل من أبطال طروادة، والقائد العسكري الرئيسي لجيوشها في الحرب ضد الإغريق، ويرجع الفضل في ذلك لشجاعته، وحنكته الحربية، وولائه الكبير لعشيرته ووطنه.

الصراع بين هكتور وأخيل يذكرنا، بأنّ الحروب والصراعات التي عادت إلى العالم في عصرنا والتي رفضنا تصديق عودتها، ميزتها أن لا منتصر فيها يخرج لينتشي بانتصاره، ولا خاسر يتراجع ليتجرع مرارة انهزامه، بل الإنسانية في كل تلك الحالات خاسرة، فلا جيوش عظيمة تنتصر، ولا جماعات ضعيفة تندحر، ما يؤكد على عبثية الحروب والصراعات المعاصرة، التي أصبحت تؤدي وفي كل الحالات إلى خسارة الإنسانية واستئصال روابط العيش المشترك على الأرض.

في إحدى معارك الطرواديين ضد الإغريق، وبعد انسحاب أخيل احتجاجًا، يُقتل صديقه المقرب "بتروكلس" على يد هكتور، بحيث يؤجج هذا الحدث غضب أخيل ويدفعه للعودة إلى ساحة المعركة، ويقرر الانتقام وممارسة كل أشكال العنف والقتل والتنكيل بفتيان وشباب طروادة وعلى رأسهم هكتور.

قرر "هكتور عصرنا" المواجهة والمضي قدمًا نحو قدره المحتوم بكل شجاعة وثبات وعزيمة

في مبارزة مصيرية أمام أسوار طروادة واجه هكتور بكل شجاعة أخيل، لكنه أدرك مصيره عندما رأى أخيل يقترب منه ويرميه بالرمح، في هذه المواجهة يكشف "هوميروس" عن تأملات عميقة حول الأخلاق الإنسانية مقارنة بجبروت أنصاف الآلهة، ورغم أنّ الإله "زفس" رق لهكتور ومال إلى إنقاذه، إلا أنّ أثينا عارضته وأبت إلا إنفاذ قدر هكتور المحتوم انتصارًا لعشيرتها (الإغريقيين)، وكذلك حاول الإله أفلون بدوره إنقاذ هكتور، إلا أنه ما لبث أن تخلى عنه، وعندما أدرك هكتور أنّ اللحظة الحاسمة قد حانت، وجه حديثه إلى أخيل (نصف إنسان) متوسلًا له أن يظهر الرحمة والكرامة الإنسانية حتى في ظل الصراع، وقال له: أناشدك، أخيل، أن تتذكر المبادئ التي تجمع البشر، تلك التي تجعل منا مخلوقات ذات كرامة. دَع أهل طروادة يُكرمونني بعد رحيلي، وأَظهر روح التسامح التي تعبّر عن أسمى القيم الإنسانية"، لكن أخيل، الذي كان يغمره الغضب والرغبة في الانتقام رفض هذا الطلب بقسوة ورد عليه: لا تتوسل يا هكتور حتى لو كنت أملك عشرة أرواح، لن أتوقف عن الانتقام، حتى لو جاء والدك الملك "بريام" ليطلب جسدك مقابل كنوز عظيمة سأدع الكلاب والطيور تلتهمك".

تتجلى في هذا المشهد طبيعة الحرب القاسية والمريرة بين أهل طروادة والإغريقيين، وصراع حاد بين العاطفة والشرف من جهة والإفراط في الاعتداد بالقوة من جهة أخرى، حيث يتخلى أخيل عن جانبه الإنساني ليغرق في انتقام وتنكيل مفرط، وتنتهي المواجهة بقتل أخيل لهكتور، والتنكيل بجثته. ثم ما لبث أن لقي أخيل المصير ذاته، بسبب سهم أصابه في نقطة ضعفه الوحيدة وهي كعبه. وفي نهاية الأسطورة معظم الأبطال، سواء من الإغريق أو الطرواديين، يلقون مصيرًا مأساويًا، بعضهم يموت في المعركة، والبعض الآخر يعاني بعد العودة إلى وطنه أو يتيه في الأرض، والبعض يتعرض للخيانة أو ينتحر، ولا أحد يخرج منتصرًا من هذه الحرب.

"أخيل العصر" سيلقى مصيره المحتوم وعبر أصغر نقاط ضعفه

لكن ماذا عن البطل الذي غادرنا مؤخرًا، فرغم ضعفه في مواجهة أخيل عصره المدعم بقوى العالم (أشباه الآلهة)، إلا أنه كان – تمامًا مثل هكتور - مستميتًا في الدفاع عن أرضه وعشيرته، متشبثًا بقيم الكرامة الإنسانية والشجاعة والحرية في مواجهة القوة الساحقة، صامدًا في وجه الاستبداد والظلم الذي أطل بوجهه القبيح على العالم منذ مدة، لقد قرر "هكتور عصرنا" المواجهة والمضي قدمًا نحو قدره المحتوم بكل شجاعة وثبات وعزيمة، رغم معرفته بمحدودية قدراته وضعف إمكانياته، مقارنةً بآلهة وقوى العصر المارقة، لكن ذلك يؤكد أنّ "أخيل العصر" بدوره سيلقى مصيره المحتوم وعبر أصغر وأتفه نقاط ضعفه (كعبه)، لأن الذي غمره في نهر "ستيكس" من أجل إكسابه مناعة ضد الهزيمة والأذى كان يمسكه من كعبه - تمامًا مثل أخيل -، مما جعل له جزءًا من جسده غير محمي أكيد سيأتي عليه من يجيد التصويب نحوه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن