الشرق الأوسط والأقصى والأدنى مع اختلاف الجغرافيا والأوضاع الثقافية والدينية والاجتماعية لم يتحرّكوا بصورة صحيحة لمحاكاة أوروبا في نهضتها ومسايرة علومها وحضارتها إلّا أخيراً بعد أن اكتشفوا الهوّة السحيقة بين ماضيهم وحاضرهم...
كما اكتشفوا كمية الفساد المسرطن في مفاصل الأنظمة القائمة... في مقابل الطريق الطويل للإصلاح السياسي وما زلنا على المصطبة في مكافحة الفساد... فضلاً عن الأخذ بالأسباب الصحيحة لنهضة الشعوب التي تحتاج إلى أُطر تشريعية ترقى للعالمية وبرامج تربوية وعلمية لإنتاج جيل جديد قادر على النهوض معتمد على ربه ثم نفسه لاستئناف العمل.
والغريب حقاً أنّ العرب قبل ذلك يعلمون أنهم متأخرون متخلّفون ولكنهم يفهمون العِلْل التي أخّرتهم وقضت عليهم بالتخلف والجمود كما يفهم الجاهل عِلّة مرضه وعجزه فيرجع إلى الشعوذة والسحر، ولا يرجع إلى الطب الصحيح، ويسأل الدجاجلة والمخرّفين ولا يسأل الأطباء والعارفين؟
وهؤلاء المستشارون جهلوا دينهم كما جهلوا دنياهم لأنّهم خلطوا بين عاداتهم وعقائدهم وبين خرافات الجمود وحقائق العبادات...
فإذا قيل لهم إنهم تأخروا لأنهم نبذوا دينهم ونسوا وصاياه وآدابه عادوا إلى الخرافة الفاشية والرقص والدفوف ولم يعودوا إلى الدين المهجور.
ولمّا قهرهم الصراع الدولي مرة بعد مرة في عدوان أوروبا عليهم ومقاومتهم لعدوانها فهموا مضطرين أسباب هذا الانهزام ورجعوا إلى علومها وصناعاتها ونظم الإدارة والمحاسبة والحوكمة فيها فرجعوا إلى الأسباب الطبيعية وفهموا عِلَل الواقع أمامهم على وجهها المعقول.
فكان هذا أول تدريب للذهن - السياسي والإداري - على حُسن التعليل وفهم طبائع الأشياء وكادت الآراء أن تتفق على منهج واحد للإصلاح وهو الأخذ بزمام العلم بمعناه الصحيح وهو (كل ما أوصل إلى المطالب العالية) مع مجاراة العصر في أساليب المعيشة ومستوى التفكير دون الذوبان فيه.
لقد صمد الإسلام في الجولة الأولى وانتظمت المصالحة بينه وبين الحضارة العلمية فلم تعد المشكلة اليوم بينه وبين العلم الحديث أو التفكير المستقيم وإنما المشكلة اليوم في أن يؤدي الإسلام رسالته في مكافحة اللوثة المادية الملحدة التي تُلغي مطالب الروح وتود لو جعلت الإنسان حيواناً بغير دين ولا عقل سوى دين القشور والأصنام والألوان؟ «ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء».
والحقيقة المرّة التي لا مفرّ منها أن الحضارة الأوروبية زوّدت الفساد بمسحة من الطرافة تستهوي النظر وتنفي عنه القبيح الذميم الذي كان يصدّ عنه أصحاب المروءات فاستباحه من لم يستبحه قبل ذلك، وهذا ما يُعرف بـ «فساد الصالحين» وهكذا صُدمت أصول الأخلاق صدمة عنيفة جراء هذا الفضاء المفتوح ذلك لأن أصول الأخلاق تقوم على العُرف أو سلطان الجماعة على الأفراد وهو ما يُعرف اليوم بـ«الذوق العام» لأن هذا العُرف العام أصيب بمقتل من جرّاء الاستهزاء بالعُرف الاجتماعي الذي درجوا عليه في المجتمعات الشرقية فرجعوا إلى أنفسهم يتساءلون عن قواعد ذلك العُرف ومبلغها من الحقيقة والصواب. وصار حالنا مثل «طاش ما طاش!» واعتراهم هذا الشك في عرفهم القديم قبل أن يخلفوه بعرف جديد صحيح يناسبهم ويُصلح لهم ويمكنهم أن يتفقوا عليه وهذه إحدى الصدمتين.
أما الصدمة الأخرى للعرب فكانت من قِبل الحرية الشخصية التي أباحت واستباحت للفرد فجأة أن يستقل بأهوائه ونزواته وآرائه وإن خرج بها عن آداب الجماعة المتفق عليها فأصبحت الحرية مرادفة لطلب التغيير والتبديل أو مرادفة للجرأة على النقد ونشر العيوب واقترنت قلة الحياء باللامبالاة كما اقترنت الشجاعة الأدبية أحياناً بالإقدام على الشهوات أمام وسائل الإعلام!
ووسط هذه العجاجات سالفة الذكر لا نعدم من أثر إيجابي يتمثل في خلوص الأذهان من أوشاب الخرافات والأباطيل التي سادت في العصور الوسطى، مع إدراك العلل والأسباب لتأخر نهضة العرب. إن الاستواء على نهج التفكير الصحيح والايمان بالدين إيماناً لا يمنع التقدم ولا يعرقل جهود المُصلِحين وتمكين المسلم من أن يُرضي عقله ويرضي ضميره ويزيل الفوارق بين العلم والدين...
فهل أدركنا لماذا تخلّف العرب؟!
("الراي") الكويتية