في مقاله المذكور، يرجع هاريري إلى ظروف تشكل وانبثاق المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر معتبرًا أنه كان في أصله حركة انبعاث قومي على غرار الحركات القومية اليونانية والبولندية وغيرها من الحركات التي عرفتها شعوب عديدة في العالم في تلك الفترة. وهكذا تأسست الأيديولوجيا الصهيونية على فكرة الأمّة اليهودية من حيث حقها في تقرير المصير وبناء الكيان القومي المجسد لهويتها الخصوصية.
لم تكن هذه الفكرة بالنسبة للكاتب متضمنة لا للاستعلاء العنصري على الفلسطينيين أو إنكار حقوقهم السياسية. إلا أنّ ما كان اتجاهًا عنصريًا محدودًا في الحركة الصهيونية أصبح مسيطرًا على قطاع واسع من الصهاينة ينكرون حقوق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة ويطالبون باحتفاظ إسرائيل بكامل الأراضي المحتلة.
أي محاولة لفرض دولة يهودية واسعة بالقوة لا يمكن أن تفضي إلا إلى التطهير العرقي والاستبداد التيوقراطي
يؤكد هاريري أنّ الجيل المؤسس للدولة الصهيونية من أمثال دفيد بن غوريون وافق على قرار تقسيم فلسطين سنة ١٩٤٧ بما كان يعني عمليًا السماح بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وقد عبّر اتفاق أوسلو سنة ١٩٩٣ عن هذا الخيار الذي لم يعد يحظى راهنًا بقبول أكثر من ثلث الإسرائيليين. ومن الواضح اليوم أنّ الحلف المتطرف الذي يقوده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يتبنى شعار الدولة اليهودية الواحدة من النهر الى البحر في تخل صريح عن خيار الدولتين، بما يعني في الواقع تكريس التمييز العنصري بين مواطنين يهود يتمتعون بكامل الحقوق ومواطنين عرب لهم حقوق منقوصة وملايين الفلسطينيين المحرومين من كل الحقوق السياسية والمدنية.
بعد حرب غزّة، ظهر بوضوح أنّ حكومة نتنياهو المتطرفة مستمرة في نهجها الراديكالي من خلال تقتيل وتشريد ملايين الفلسطينيين ورفض أي مسار للحل السياسي السلمي للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
إنّ أي محاولة لفرض دولة يهودية واسعة بالقوة لا يمكن أن تفضي إلا إلى الحرب الأهلية وجرائم التطهير العرقي والاستبداد التيوقراطي. ومن هنا يرى هاريري ضرورة الانتقال من التصور الديني المحض للهوية الإسرائيلية الذي يراه عائقًا أمام التعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مبينًا أنّ قادة الصهيونية الأوائل مثل هرتزل وبن غوريون كانوا على استعداد لقبول وطن قومي لليهود تحت السيادة العثمانية، ونرى اليوم اتجاهًا واسعًا داخل إسرائيل يتبنى نزوعًا وطنيًا متحررًا من الخلفية اليهودية.
صحيح أنّ نتنياهو وحلفاءه قد فرضوا دستوريًا مقولة "الدولة اليهودية" التي تتعارض مع فكرة المواطنة المتساوية داخل دولة ديمقراطية مدنية، لكن هذه الرؤية لا تنسجم حسب هاريري مع الطابع العلماني الأصلي للصهيونية، وستفضي حتمًا إلى حالة خطيرة من العنف والتطرف تقضي على المشروع "القومي اليهودي" بكامله.
التيار المتطرف حوّل الصراع القادم إلى صراع جوهري بين الحل الديمقراطي أو الحل العنصري في فلسطين الكبرى
لقد عانت اليهودية في السابق من حركات التطرف الراديكالي التي تمت في داخلها، فدمرت علاقاتها بالإمبراطورية الرومانية وفرضت على اليهود حالة الشتات والتفرق في العالم، وها هُم اليوم يواجهون خطرًا مماثلًا بعد أن بنوا "دولتهم" الجديدة كما يرى هاراري.
قد يكون صوت هاراري اليوم نشازًا في إسرائيل التي يحكمها المتطرفون الراديكاليون، لكنه يعبّر عن القلق المتزايد لدى النخب اليهودية على مصير الدولة التي بنتها الحركة الصهيونية من أجل حل ما عُرف بالمشكل اليهودي الذي هو مشكل أوروبي محض. ومن الجلي أنّ التيار المتطرف الذي قضى عمليًا على إمكانية الفصل بين الدولتين نتيجة للاستيطان الكثيف في المناطق الفلسطينية، قوض مرتكزات المشروع الصهيوني الأصلي وحوّل الصراع القادم إلى صراع جوهري بين الحل الديمقراطي أو الحل العنصري في فلسطين الكبرى.
(خاص "عروبة 22")