بصمات

الأمن المكشوف و"المناعة الداخلية"!

سعيد علي نجدي

المشاركة

عادةً عندما يتعرض أي بلد لعدوان، أو لغزو خارجي، من المفترض أن يكون هذا الأمر محفزًا لتوحيد الشعب أمام العدو، ذلك الآخر المعتدي بطبيعة الحال، وبهذا توضع جانبًا الخلافات الداخلية ذات الطابع السياسي، المحمولة بالطابع الحزبي والطائفي والمذهبي، كيف إذا كان ذلك العدو هو الكيان الصهيوني الذي عمّر تاريخًا طويلًا في قتل أبناء أوطاننا، والذي يعبّر بكل وضوح عن عدائه لشتى الأقطار العربية، وعن أطماعه ويفصح عن أهدافه المعلنة بتغيير الخرائط لبعض الدول، بأخذ أجزاء من أراضيها، أو بالإستيلاء على خيراتها من مياه أو حقول غاز، وهذا يعتبر مساسًا بالأمن القومي لكل الوطن العربي.

الأمن المكشوف و

نظرة سريعة تكشف كيف أنّ هذا الشعور أمام كل تلك المخاطر يترنح، ويتحول إلى شعور بارد، ولكن السؤال لماذا كل ذلك التراخي بمصلحة الدولة وخيراتها ومواردها، والأهم تحوّل الشعور إلى نوع من أنواع الخدر واللامبالاة، أمام المجازر المفتوحة، التي تكشف عن مخططات الإبادة لشعب صاحب حق يراد له أن يُقتلع من أرضه ورميه في الشتات، أليست المشكلة تبدأ من هنا، إلا أننا نلتف على كل هذا بمبررات، وتبريرات، وتخوينات، وهذا العدو يستكمل كل مخططاته، في ما أبناء الأوطان والأهل منشغلون بتحميل المسؤوليات بين بعضهم، النقاش السياسي مطلوب ولا بد منه، لكن هل يكون نقاشًا على حساب الأمن المكشوف للوطن وللناس التي هي في العراء والمنافي.

عقليات الحكم المتحكمة وأخطاء القوى وحسابات الأطراف الإقليمية عملت على ضرب الناس بالناس

إنّ الأخطر من العدو الإسرائيلي، هو ما خلّفه من فرقة بين الناس، وحروب أهلية، وانقسامات أصبحت تراهن في بعض الأحيان على الخارج بضرب الداخل، متناسية خطر هذا الغول الإسرائيلي ليس على فئة فحسب، إنما على كل الوطن بما يشكله من تحديات لذلك الكيان المرتعد.

لقد استُبدل العداء للعدو الإسرائيلي للأسف، بعداءات داخلية، بين المكونات الداخلية لكل البلدان المحيطة، فنظرة سريعة تبيّن كيف حوّلت الحروب الأهلية الناس، وكيف أدى ذلك إلى حقد عميق بين شرائح عدة، في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وحتى في بلدان المغرب العربي، ما بين الجزائر والمغرب، على سبيل المثال، بسبب عقليات الحكم المتحكمة، وأخطاء القوى وحسابات الأطراف الإقليمية، التي عملت على ضرب الناس بالناس.

كم نحن بحاجة من جديد إلى تأليف الناس بين بعضها، وإستئناف ذاكرة يصار فيها من جديد إلى إخراج كل أشكال الحقد والنزاعات والحروب، وهذه بطبيعة الحال لن يستقيم معها الوطن إذا ما عولج فيها أسباب التشتيت والعنف.

أليست الذات الفردية هي نتاج الجماعة وتصوراتها، وبالتالي إذا كانت تصورات الجماعة معيارية بمعايير العصبيات الفئوية، فإنها سوف تنتج ذواتًا متعصبين حول شرنقة الهويات الضيقة.

إنّ تمزيق المجتمعات، وضرب الحصون فيها التي تشكل متراسًا للمناعة الداخلية، هو أشبه بالصمغ الذي إذا غاب غابت معه اللُحمة التي تشد المجتمع، وتعمل على حمايته، بالتضامن وقيم الوطن بدل الهوية الضيقة. فحروب الأهل ما بين بعضهم البعض، عرّضت كل الأوطان إلى نوع من أنواع الانكشاف، بحيث أنه عندما يستوي الحقل تأتي الضربة الخارجية، لتعمل على ضرب كل ذلك الركام، وهذا بطبيعة الحال له حوامل من مشاريع السلطة والقوى ذات التبعيات الخارجية، والتي من أجل سلطتها فإنها مستعدة لأن تضرب الناس بالناس، ليقف ديوك السلطة وتعم الثرثرة على الأوجاع.

حروب الأهل المذهبية لم تعمر إلا الكره لتتحوّل الأوطان إلى مأتم ضخم لا رابح فيه سوى العدو

إنّ ما حاولت هذه القوى العمل عليه هو تحويل التضامن الأهلي إلى شكل من أشكال التفتت والتفلت، ليخلق ذلك نفسانيات فردية أنانية، يموت معها حس المصلحة الوطنية، وحتى المثقف الذي يربى في أجواء العصبيات التي تقوم على الغلبة - التي هي غلبة لا تستوي بطبيعة الحال - سوف ينتج ثقافة عصبية أنانية، ويجنّد مقولات الثقافة والفكر لخدمة العصبية المشوهة.

يُعلّمنا درس الحروب الخارجية على الأوطان، أنه مهما إستقوى أي طرف على آخر، فإنه لا غنى عن الداخل، وعن الناس، لأنّ الوطن ما هو سوى إرادة الناس في العيش بمحبة وتآزر وتضامن، وهذا ما يجمع الفئات المتعددة بشتى المشارب. أما حروب الأهل المذهبية في المنطقة فلم تعمر إلا الكره الذي لن يفيد أحدًا، وهذا الكره نتائجه تظهر وتنعكس على مستوى الفعل عندما تحل الكارثة، لتتحوّل الأوطان إلى مأتم ضخم، لا رابح فيه سوى العدو الإسرائيلي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن