بذريعة "11 سبتمبر"، الذي اعتبره المحافظون الأميركيون الجدد تطبيقًا لنظرية صدام الحضارات التي طرحها صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) وأثارت جدلًا هائلًا طيلة التسعينيّات، جرى احتلال العراق. وإبّان ذلك الاحتلال، اعتمد الخطاب الثقافي الغربي تقسيمًا ثنائيًا للمجتمعات العربية بين معتدلين يقبلون بالحداثة ويحبّون الغرب ويرحّبون بالدور الأميركي في المنطقة. وبين متشدّدين يرفضون الحداثة ويكرهون الغرب ويعاندون الدور الأميركي.
المعتدلون جرى تقريظهم دومًا، ولكن مع حصرهم في دائرة المُهادنين الذين شكّلوا ثقافيًا ظاهرة المُتغرّبين، وسياسيًا ظاهرة المُحافظين، الحريصين على استمرار الأمر الواقع أيًّا كان الثمن، وقد حملوا أخيرًا وصف المُطبِّعين.
التيّار التوفيقي لا يكره الغرب من حيث المبدأ بل يكره نزعاته الاستعلائية وسياساته الاستعمارية
والمتشددون جرى حصرهم في الباحثين عن أصالتهم الحضارية سواء القوميّة كالبعثيين والناصريين، أو الدينية كالتيّارات الإسلامية بكلّ أطيافها من جماعاتٍ معارضةٍ وحركاتٍ احتجاجية. وبالطبع جرى حصار الأصاليين بالسؤال: لماذا يكرهوننا؟ تجاهلًا لحقيقة أنّ القوميين يكرهون بالفطرة كلّ أشكال الاحتلال، وأنّ جلّ الإسلاميين المتشدّدين وُلِدوا في حجر الغرب وأجهزته الاستخباراتية، برعاية النّظم المحافظة وتمويلها، وبهدف حصار التوجّهات القومية والشيوعية.
أمّا الأهم فهو أنّ ذلك التقسيم الثنائي تجاهل صوتًا ثالثًا عميقًا، يعكس الروح التقدّمية في المجتمعات العربية، وهو التيّار التوفيقي، الذي يقبل بالحداثة، ولا يكره الغرب من حيث المبدأ، بل يكره نزعاته الاستعلائية وسياساته الاستعمارية، التي لم تعُد تجِد لنفسها حقلًا تمارس فيه إبداعاتها، في أعقاب موجة التحرّر القومي، سوى الصراع العربي - الإسرائيلي، عبر الانحياز الدائم والتلقائي لإسرائيل بأساطيرها الدينية التوراتية أو الصهيونية القومية.
الغرب يطلب إدانة "حماس" باعتبارها الطرف الذي بادر بـ"الطوفان" وكأنّ الصراع قد بدأ لتوّه
بالطبع لم يكن التيار التوفيقي ليقبل بهذا الانحياز، خصوصًا أنّه مارس الاعتدال السياسي، ووقّع بالفعل اتفاقيات سلامٍ بغية حلٍ عادلٍ للصراع مع إسرائيل يلتزم بالحدود الدنيا للحقّ الفلسطيني في دولةٍ مستقلة. بل إنّه أبدى من الاحترام للشرعيّة الدوليّة قدرًا دفعه للتحالف مع الولايات المتحدة ضدّ الشقيق "العراق" عندما غزا الكويت، لكنّه لم يحصل أبدًا على السلام العادل. ولأنّ هذا التيّار لا يرغب غالبًا في ممارسة العنف الشرعي بتحريك الجيوش النظامية، فقد بدا الطريق مسدودًا أمام الكتلة الرئيسية في المجتمعات العربية، ومن ثم تحرّك التيّار الهامشي / المُتشدّد إلى صدارة المشهد، دفاعًا عن قضيةٍ تكاد تغرب شمسها. ولكونه تيارًا احتجاجيًا، فإنّ وسائله بالضرورة من طبيعته وجوهره، إذ يملك الحق وإن طَلَبَهُ بصورةٍ خشنة، كما فعلت "حماس" في "طوفان الأقصى" بهدف إحياء القضية وإعادة وضعها على جدول أعمال المنطقة والعالم.
هكذا سلّم الغرب التيار التوفيقي إلى التيار المتشدّد، قبل أن يعود ويطلب منه أن يُدينَه في صورة "حماس"، باعتبارها الطرف الذي بادر بـ"الطوفان" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكأنّ الصراع قد بدأ لتوّه، أو أنّ "الطوفان" ليس ردّ فعل على قرنٍ من الاستيطان والاغتيال والحصار. يرفض التيار التوفيقي إدانة الجماعة وهي تخوض معركةً مقدّسةً ضدّ الاحتلال، يُجمّد اختلافه الإيديولوجي معها ويحتضن منطقها العادل على الرَّغم من طريقة تعبيرها الخشنة.
الهدف هو المكان نفسه وإن تغّير شكله من إمارة صليبية إلى محميّة صهيونيّة
في المقابل، تزداد النزعة التدخّلية الأميركية في المنطقة باستدعاء السفن البحرية وحاملات الطائرات، مع آلاف الجنود والضبّاط من المارينز والقوات الخاصّة والمستشارين العسكريين بذريعة منع تمدّد الصراع. يتبعهم البريطانيون والفرنسيون والألمان بجهدٍ سياسيّ وتسليحي، ليتبدّى الغرب الحديث المُحتشد ضدّ غزّة، ثم ضدّ إيران المُسلمة، ويُذكّر بأوروبا المسيحيّة عندما احتشدت خلف البابا أوربان الثاني بهدف اقتناص أورشليم. الهدف هو المكان نفسه، وإن تغّير شكله من إمارةٍ صليبيةٍ إلى محميّةٍ صهيونيّة. من الطبيعي أن يستفزَّ المشهد جماعاتٍ ومنظماتٍ تبدو إيديولوجيّتها المُتشدّدة طريقًا وحيدًا لحفظ هوية المنطقة، ما يوفر لها الجاذبية، وتاليًا القدرة على تجنيد الأعضاء الجدد فتزداد قدرتها على تحدّي الولايات المتحدة، حيوية الغرب الكبرى، ليأتيَ الردّ عاصفًا. وهكذا في حلقةٍ مفرغةٍ من العنف والعنف المضادّ، تدفع بنا، ولو بشكلٍ غير واعٍ، إلى صدامٍ حضاريّ تجسيدًا لتلك النبوءة السوداء التي قد تُحقّق ذاتها.
(خاص "عروبة 22")