إذا كان مشروع الازدراع الصهيوني يغرس أنيابه ومخالبه كاحتلال عنصري إبادي، وواجهة لمشروع الغرب الاستعماري، فإنّ المشروع الايراني المؤسّس على حقيقة الجوار الجغرافي، يتسلّل عبر تسخير واستثمار التشيّع وآل البيت كأقانيم لمرتكزات مشروع النفوذ والهيمنة الإيرانية الذي رغم كل التحولات ينطلق من عوامل تاريخية وجغرافية ومذهبية.
بدون شك ثمّة فرق حقيقي وجوهري بين المشروعين الصهيوني والإيراني، رغم أنّ أهدافهما الكبرى تتشابهان في السيطرة والهيمنة وتغيير هوية المنطقة والشرق الأوسط.
ما كان لنفوذ إيران أن يتوغّل في عدّة عواصم وبلاد عربية لولا التخادم مع الولايات المتحدة
ما تقدّم يستظهر قفّازات الحرير التي تغلّف مبارزات الملاكمة والردود المتبادلة بين الطرفين. فبعد نحو شهر على الردّ الإيراني على اغتيال زعيم حركة "حماس" اسماعيل هنية شكلًا وبضعة أيام على اغتيال زعيم "حزب الله" حسن نصرالله، نفّذت إسرائيل ردّها على ثأر إيران المزدوج.
بطبيعة الحال ونتيجة الجهود الأمريكية كان الردّ الاسرائيلي خاليًا من الدسم السياسي. فقد تكفلت المفاوضات الأمريكية بتشذيب ردّ بنيامين نتنياهو بطريقة حذفت فيها استهداف المشروع النووي الايراني (الذي يحتاج بالضرورة لانخراط مقاتلات الولايات المتحدة) ومصافي النفط وغيرهما من منشآت البنية التحتية الأساسية، وحصر الردّ الإسرائيلي باستهداف عدة مواقع عسكرية في طهران وخوزستان وإيلام.. والأهم من ذلك عدم استهداف المرشد علي خامنئي كردّ على مُسيّرة "حزب الله" التي استهدفت منزل نتنياهو بقصد اغتياله في قيساريا.
ثم انطلقت تصريحات أمريكية تطالب إيران بعدم الردّ على الردّ الإسرائيلي والانتهاء من عملية الملاكمة وتبادل الضربات. وكما قلّلت إسرائيل من عملية "الوعد الصادق 2"، قلّلت إيران من الردّ الاسرائيلي عليها. لكن التصريحات الإيرانية ما قبل الردّ الإسرائيلي كانت تتوعد إسرائيل بردّ قاسٍ وعنيف فيما لو تجرأت واستهدفت إيران، ما يعني أنّ ايران أمام تحد المصداقية في الردّ على ضربات إسرائيل التي مهّد لها نتنياهو بخطاب إلى الأمّة الفارسية أتبعه باستقبال نجل شاه إيران السابق يبشرها بالتغيير القادم، تمامًا كما بشّر اللبنانيين بالتغيير المنشود القائم وفق سرديته على تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني.
ترغب إيران بأن تحتفظ بأوراق القوة لتحرقها باللحظة المناسبة خدمةً لمشروعها النووي
ما يمكن قوله إنّ الردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني كان مضبوط الإيقاع بالفعل، ولم يزل ضابط الإيقاع الأمريكي يدوّر الزوايا بحجة ظاهرها منع توسّع الحرب وانزلاقها نحو حرب إقليمية واسعة، ما يعني بوضوح عارٍ من كل التباس أنّ إيران لم تزل تشكل ضرورة ماسّة للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، رغم تغوّل إسرائيل في غزّة ولبنان ووصول يدها الطويلة إلى الحُديدة في اليمن فضلًا عن سوريا والعراق وانتهاءً بإيران.
بديهي التذكير أنه ما كان لنفوذ إيران أن يتوغّل في عدّة عواصم وبلاد عربية لولا التخادم مع الولايات المتحدة، والذي انطلق مع غزو جورج بوش لأفغانستان والعراق، وهو التخادم الذي لولاه لما نجح الأمريكيون من غزو هذين البلدين عبر المساعدة الإيرانية كما سبق وأعلن محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني محمد خاتمي.
إنّه التخادم الذي غيّر خريطة الشرق الأوسط وحركة توازن القوى فيه، تخادم ارتكز ليس على إزالة نظام صدام حسين فحسب، وإنما على إجراء عملية تغيير دينوغرافية على مستوى تركيبة النظام العراقي من جهة وبين التعداد الديمغرافي لمكونات العراق من جهة ثانية. فقبل سقوط بغداد عام 2003 كان الأمريكيون يسوقون غزوهم بمشروع إلغاء الديكتاتورية وحكم الأقلية السنية للأكثريتين الشيعية والكردية، ما جعل العراق بأوزانه المختلفة لقمة في فم إيران، نتيجة احتلالين عسكري أمريكي، ومعنوي إيراني.
صحيح أنّ "طوفان الأقصى" ومهندسه الشهيد يحيى السنوار قد هزّ العمود الفقري للدولة العبرية وصدّع بنيانها، لكن الصحيح أيضًا أنّ تداعيات "الطوفان" انعكست سلبًا على محور الممانعة بعد الضربات العدوانية الإسرائيلية التي كان من أبرز نتائجها اغتيال زعيم "حزب الله" وقيادته العسكرية رغم تمكن الحزب من التقاط أنفاسه واستعادته جزءًا من المبادرة في مقارعة جيش الاحتلال جنوبًا وفي عمق الكيان باتجاه حيفا وما بعدها.
في ظلال المشروعين الإسرائيلي والإيراني اللذين يتفيآن الاستراتيجية الأمريكية.. ماذا عن المشروع العربي؟
هذه التداعيات أرخت بظلالها الكثيفة على محور المقاومة وزعيمته إيران، التي وجدت نفسها بين ألسنة اللهب الإسرائيلية التي تمكنت من تعطيل حروب إيران بالنيابة إلى المواجهة المباشرة مع النظام الايراني الذي يعتبر أنّ أولويته ما قبل الأولى هي الحفاظ على النظام، ما يعني ضمنًا استعداده للتضحية بكثير من أوراق القوة السابقة العراقية منها خاصة، والتي فقدت وظيفتها في الدفاع عن إيران طبقًا لما أسّسها عليه قائد "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني. ما جعل المواجهة قائمة ومباشرة بين مشروعَي إيران وإسرائيل لرسم معالم الشرق الأوسط الجديد حيث ترغب إيران بأن تحتفظ بأوراق القوة لتحرقها باللحظة المناسبة خدمةً لمشروعها النووي، فيما تعمل إسرائيل على إحراق قوة إيران الخارجية عبر ضرب أذرعها في المنطقة، وتنتظر جلوس ترامب على كرسي البيت الأبيض للإجهاز على مشروع إيران النووي من جهة أخرى.
وفي ظلال المشروعين الإسرائيلي والإيراني اللذين يتفيآن ظلال الاستراتيجية الأمريكية وبدائلها المتعددة نتساءل مع المتسائلين، ماذا عن المشروع العربي، وإلى متى يبقى قدر الأحلام العربية الاصطفاف وراء أحد المشروعين؟. صدق من قال إنّ المشروع يهزم اللامشروع!.
(خاص "عروبة 22")