بدأت تونس في استخدام تقنية تحلية المياه سنة 1995 بإنجاز محطة لتحلية المياه الجوفية بقابس بعد تجربة محتشمة سنة 1983 في جزيرة قرقنة، لكن أكبر إنجاز تحقق حين دخلت محطة جربة طور الإنتاج في مايو/أيار 2018 بكلفة تناهز 200 مليون دينار. ودشنت تونس هذه السنة محطتين لتحلية مياه البحر وهي الزارات في محافظة قابس (جنوب البلاد) بطاقة إنتاجية تبلغ حوالى 50 ألف متر مكعب يوميًا لحل مشاكل الإمداد في ولايات الجنوب التونسي وقابس ومدنين وتطاوين.
ويُعتبر مشروع محطة تحلية مياه البحر في محافظة صفاقس الأضخم في البلاد بكلفة تتجاوز 210 ملايين دولار، على أن يوفر في مرحلة أولى كمية 100 ألف متر مكعب من المياه الخاضعة للتحلية يوميًا وصولًا إلى 200 ألف متر مكعب يوميًا في المرحلة الثانية، علمًا أنّ احتياجات محافظة صفاقس من الماء تبلغ 150 ألف متر مكعب يوميًا. ومن المنتظر أن تدخل محطة سوسة (وسط شرقي) حيز التشغيل نهاية العام الحالي بقدرة إنتاجية تبلغ 50 ألف متر مكعب يوميًا.
وتساهم محطات تحلية مياه البحر بالإضافة إلى 15 محطة أخرى لتحلية المياه الجوفية بحوالى 5 بالمئة من مجموع المياه الصالحة للشرب في تونس، وتتطلع السلطات التونسية لرفع هذه النسبة إلى 30 بالمئة بحلول سنة 2030.
لكن رغم أنّ مشاريع تحلية المياه قد تكون حلًا عمليًا لمواجهة شح المياه الذي تعاني منه تونس نتيجة تتالي سنوات الجفاف، إلا أنه يبقى خيارًا مكلفًا بالنسبة لبلد محدود الموارد المالية كتونس، مقابل حلول أخرى أقل تكلفة أكثر نجاعة. إذ تتراوح تكلفة تحلية متر مكعب واحد من المياه بين ثلاثة دنانير وأربعة دنانير (أكثر من دولار واحد)، أي أكثر من ضعف تكلفة المتر المكعب من المياه المتأتية من السدود (1700 مليم). وتبيعه الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه للمواطنين بأقل من سعر التكلفة وتحديدًا بـ200 مليم فقط للمتر المكعب الواحد للفئات الأقل استهلاكًا، وهو ما يؤثر على توازناتها المالية حيث تجاوزت خسائرها المالية 860 مليون دينار.
وتستهلك محطات التحلية التي تعتمد على تقنية "التناضح العكسي" أكثر من 13 كيلوواط في الساعة مقابل كل ألف غالون (الغالون يساوي 3.7854 لتر) يتم إنتاجه. كما تتطلب هذه المحطات معدات متخصصة وأغشية عالية الجودة مما يجعل تكاليف هذه المشاريع عالية جدًا. و"التناضح العكسي" هو من أبرز التقنيات المستخدمة في مجال تحلية المياه.
الخبير التونسي المختص في التنمية والموارد المائية، حسين الرحيلي، يقول لـ"عروبة 22": "عادةً ما تلجأ الدول إلى خيار تحلية المياه في مرحلة أخيرة بعد استنفاد بقية الحلول، لأنّ التقنية المعتمدة مكلفة جدًا وتستهلك طاقة كبيرة جدًا، في حين أنّ تونس اعتمدت هذا الحل منذ البداية، بدل التوجه لتجديد قنوات الشبكات الرئيسية في كل مناطق البلاد التي تآكلت وباتت تتسبب في إهدار كبير للماء الصالح للشرب وهي خطوة تضمن نتائج أفضل وبكلفة أقل".
يُذكر أنه حسب تقارير وزارة الفلاحة التونسية فإنّ نسبة إهدار المياه تبلغ 30 بالمئة أي ما يعادل 700 مليون متر مكعب سنويًا وهو ما يساوي حاجيات التونسيين خلال سنة أو أكثر، وتصل في بعض المحافظات على غرار قابس وقفصة إلى 50 بالمئة. كما أنّ قرابة ثلث المياه الصالحة للشرب تضيع في الطريق قبل الوصول إلى المستهلك بسبب تآكل الشبكات، إذ ذكر تقرير للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه سنة 2019 أنّ الشركة ضخت 758.6 مليون متر مكعب في شبكاتها ولم يصل منها للمستهلكين إلا 508.1 مليون متر مكعب.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ حوالى 60 بالمئة من شبكات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه يتراوح عمرها ما بين 30 و50 سنة، وتعاني نسبة كبيرة من المعدات والأنابيب من الكسر والتلف، إذ تم رصد أكثر من 19 ألف حالة كسر للأنابيب وأكثر من 21 ألف حالة تسرّب للمياه الصالحة للشرب سنة 2019، والمشاكل تتفاقم سنويًا.
ويشدد الرحيلي على أنّ "تونس مجبرة اليوم على التفكير في تنويع المصادر غير التقليدية للمياه على غرار إعادة استعمال مياه الصرف الصحي والاستثمار في تركيز وتأهيل محطات معالجة المياه من خلال المعالجة الثلاثية والتي تفرز مياهًا ذات مواصفات عالمية يمكن استغلالها في المجال الفلاحي. وهناك إجماع من الخبراء على أنّ المراهنة على هذه التقنية من شأنه أن يكون أكثر نجاعة وأقل تكلفة من تحلية المياه، إذ تقوم العديد من الدول في العالم بالمعالجة الثلاثية لهذه المياه وتستعملها حتى في الشرب".
ورغم أنّ تقنية معالجة المياه المستعملة معتمدة في تونس منذ سنوات طويلة، إلا أنها تثير الكثير من الجدل والنقد لأنها باتت غير مطابقة للمواصفات الدولية ولا تستجيب لمعايير الجودة. وهذا ما يؤكده أحد التقارير الرقابية الصادر عن محكمة المحاسبات سنة 2015، حين أوضح أنّ كل محطات التطهير التي تخضع لإشراف ديوان التطهير تعاني من مشاكل عديدة تسبب في أزمات بيئية على غرار الكارثة البيئية في الضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية وبعض الأودية الهامة.
كذلك يطالب الخبراء بتنظيم قطاع الفلاحة الذي يُعتبر أحد أبرز القطاعات التي تستنزف الموارد المائية في تونس بشكل كبير، إذ يحتكر 80 بالمئة من الموارد. علمًا أنّ جزءًا كبيرًا من المنتوجات الفلاحية المستنزفة للموارد المائية معدة للتصدير في حين يعجز التونسي عن شراء الكثير من هذه المنتوجات أو تحصيلها بأسعار مرتفعة. ولهذا تتعالى الدعوات لوضع هيكلة جديدة للأنشطة الفلاحية تتلاءم مع المستجدات المناخية في البلاد وتطال المتسببين المباشرين في هذا الاستنزاف الكبير للمياه. ذلك أنّ إجراءات ترشيد الاستغلال الفلاحي للماء، تستهدف حصرًا صغار الفلاحين عبر الحصص المائية وتحجير عدد من الاستعمالات، في حين تتجاهل مسؤولية كبار الفلاحين من أصحاب الإنتاج التصديري عن استنزاف الموارد المائية.
(خاص "عروبة 22")