على الرغم من أنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي سعى إلى طمأنة إثيوبيا وتهدئة الأوضاع، بالتأكيد على أنّ دعم القاهرة لمقديشو لا علاقة له بأديس أبابا، ما زالت إثيوبيا مصممة على اعتبار التواجد العسكري المصري في الصومال تهديدًا مباشرًا لها ولمصالحها.
وبينما رأي البعض في قمة "إريتريا ومصر والصومال"، التي عُقدت مؤخرًا، محورًا لزيادة الضغط ضد إثيوبيا، فقد نفى وزير الإعلام الصومالي داود عويس هذا الأمر، مؤكدا أنّ الاجتماع كان مجرد تعاون بين الدول الثلاث، بعيدًا عن محاولة إثارة أديس أبابا.
وكان لافتًا أنّ البيان الختامي للقاء قادة مصر والصومال وإريتريا، في العاصمة الإريترية أسمرا، تحدث عن "احترام سيادة الدول وسلامتها الإقليمية"، في إشارة واضحة إلى طموحات إثيوبيا، البلد غير الساحلي، في الحصول على منفذ بحري، وان لم يذكرها تحديدًا.
لم تكن زيارة السيسي إلى إريتريا هي أول زيارة رسمية له إلى هناك، لكنها كانت أيضًا أول زيارة رسمية يقوم بها رئيس مصري إلى البلد التي زارها الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود حتى الآن ثلاث مرات خلال هذا العام.
لم يُخفِ رئيس الحكومة الإثيوبية أبي أحمد طموحاته للوصول إلى البحر الأحمر، الذي اعتبره في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2023، "الحدود الطبيعية" لبلاده!. أبلغ أبي أحمد آنذك برلمانه، أنّ الوصول إلى البحر الأحمر "مسألة وجودية وسنقاتل من أجلها"، مكررًا تهديده الذي صرح به في خطاب سابق في يوليو/تموز 2023، باستخدام القوة إذا لم يُمنح ميناء على البحر الأحمر.
وجاءت مذكرة التفاهم التي أبرمها مع إقليم أرض الصومال الانفصالي غير المعترف به دوليًا مطلع هذا العام، للتأكيد على رغبة إثيوبيا في الحصول على مساحة تقدر بنحو 20 كيلومترًا من أراض هذا الإقليم لبناء قاعدة بحرية في مقابل اعتراف إثيوبيا به كدولة مستقلة ذات سيادة.
في تقدير البعض، فإنّ آبي أحمد هو فلاديمير بوتن القرن الأفريقي، لأنه يسعى إلى إعادة رسم الحدود الدولية من خلال الحرب. بينما المغزى السياسي من قيام إثيوبيا بإنشاء سد النهضة هو السيطرة والتحكم في مياه نهر النيل، وأخذ دور الزعامة في منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي، فالصراع هنا بين ما تراه إثيوبيا ضرورة وجودية لها، وتراه مصر تهديدًا وجوديًا لها أيضًا، يتحوّل إلى نزاع حول هوية الدولتَين.
ينص المبدأ الثالث من اتفاق إعلان المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان، حول مشروع سد النهضة الإثيوبي الذي وقّع في 23 من شهر مارس/آذار 2015، على عدم التسبب في ضرر ذي شأن، وأن تتخذ الدول الثلاث كافة الإجراءات المناسبة، لتجنب التسبب في ضرر ذي شأن خلال استخدامها للنيل الأزرق/النهر الرئيسي. لكن إثيوبيا ترفض السماح بإجراء تقييم للأثر البيئي والاجتماعي للسدّ، وهو شرط يفرضه القانون الدولي عند تنفيذ مثل هذه المشاريع.
وتأجلت قمة لدول نهر النيل في أوغندا، التي كانت مقررة هذا الشهر إلى مطلع العام المقبل، بسبب خلافات بين هذه الدول، على الرغم من تصاعد الضغوط على مصر، بدخول اتفاق تاريخي بين عدد من دول حوض النيل بشأن الإدارة العادلة والمستدامة لمياه النهر، حيّز التنفيذ رغم معارضة مصر، بعد أكثر من عقد من المفاوضات.
ورفضت مصر والسودان اعتماد الاتفاق، الذي تمّ التوصل إليه عام 2010 في عنتيبي في أوغندا، بين (إثيوبيا ورواندا وأوغندا وتنزانيا وبوروندي)، حيث قال وزير الري والموارد المائية المصري هاني سويلم بوضوح إنّ بلاده لن تعترف بهذا الاتفاق، مشيرًا إلى رفضها ما وصفه بـ"الإجراءات الأحادية".
ثمة تحذيرات حقيقية من أنّ الحرب بين مصر وإثيوبيا مسألة وقت فقط، على اعتبار أنّ القادة المصريين، الذين أعلنوا استعدادهم للحرب لحماية حصة بلادهم من المياه، سيسعون لتفادي حدوث غضب شعبي عارم، قد يدفع الناس إلى الشوارع، على الرغم من ضيق قنوات الاحتجاج المتاحة لهم.
وفيما يصور السرد الإثيوبي، سد النهضة على أنه مشروع وضروري للتنمية الوطنية، ويؤكد موضوعات العدالة والنمو والفخر الوطني، ويضع إثيوبيا كجهة فاعلة مسؤولة ومتطلعة إلى المستقبل، يتناقض هذا التصوير بشكل صارخ مع روايات وسائل الإعلام المصرية، التي غالبًا ما تصور سد النهضة باعتباره تهديدًا، بل وبمثابة "قنبلة مائية" تفوق في تأثيرها القنبلة النووية في حالة انهياره.
ومع تصور البعض في أديس أبابا، أنّ يد النظام المصري مشلولة أو عاجزة في ظل هذا الزخم المضطرب، إلا أنّ الواقع يوضح أنّ القاهرة ما زالت قادرة على استخدام أدواتها الدبلوماسية والعسكرية لمواجهة التحديات الإقليمية.
ومع استبعاد الحل العسكري، لصالح سيناريو أن يؤدي الجمود الدبلوماسي إلى صراع طويل الأمد ومنخفض الشدة مع إثيوبيا، تندفع مصر لاختبار نفوذها وحدودها كقوة فاعلة في القرن الأفريقي لإبقاء أثيوبيا في محبسها الجغرافي، لكن إلى حين!!.
(خاص "عروبة 22")