تقدير موقف

نداء إلى دول الاعتدال العربي

أُدخل لبنان عنوة منذ عملية 7 أكتوبر في فصل جديد من فصول الحروب فيه وعليه منذ سنة 1969 والفصل الأخير لعله الأخطر على وجود لبنان الدولة والكيان. وشاءت الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية أن يُترك وحيدًا يواجه حربًا مدمّرة بين إسرائيل وإيران فوق أرضه وعبر ناسه إذ شُرّد أكثر من مليون مواطن من المدن والقرى في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، هذه المناطق التي شهدت أعنف وأشرس موجة تدمير غير مسبوقة منذ العام 1975.

نداء إلى دول الاعتدال العربي

إعتاد لبنان إبان الحروب والنزاعات التي مر بها منذ أكثر من خمسين سنة على اهتمام عربي ودولي من خلال مبادرات ووساطات. بمعزل عن النجاح أو الفشل كان يلاقي احتضانًا واهتمامًا عربيًا ودوليًا يقابله اليوم تخلٍ وبرودة من القريب والبعيد باستثناء بعض الوساطات، جلها لوقف النار بين "حزب الله" وإسرائيل أكثر منه للوصول لحل نهائي لمعضلات لبنانية مزمنة ومتجذرة.

التخلي أسبايه كثيرة، أولها وللأسف التخلي ببُعده الداخلي نتيجة الإنقسام والشرذمة والخلافات الداخلية بين الخصوم وبين الحلفاء أنفسهم، إضافة الى الفراغ المتعمد في المؤسسات الدستورية والإدارات العامة ما أدى وعلى مدى سنوات طوال إلى سقوط الدولة واستباحة كل مقوماتها ودورها في صناعة القرار والنتيجة هي هذه الحرب الوجودية.

هجمة الإعتدال العربي تملأ الفراغ ومن دون ذلك سيبقى لبنان أسير شعارات ومشاريع إنتحارية قصيرة النظر

أما التخلي العربي هو من نتائج التخلي والشرذمة الداخلية التي جعلت من لبنان على مدى سنوات منطلقًا لحملات سياسية وإعلامية وممارسات مضرة وعدائية ضد دول عربية وبخاصة دول الخليج العربي، وذلك تماهيًا وخدمةً لمحور إيران وما سُمي بـ"الممانعة". وفي السياق، تمت هذه الممارسات كلها تحت سطوة السلاح غير الشرعي وبحجة مقاومة إسرائيل!.

التخلي الدولي يحاكي مسببات التخلي العربي إضافة إلى تحوّل لبنان إلى مركز لمن تُدرجهم بعض الدول الغربية والمعروفة بصداقتها للبنان على لوائح الإرهاب وملجأ للمطلوبين من هذه الدول والمحاكم الدولية.

المحصلة أنّ لبنان إبتعد عن ما درج عليه منذ الإستقلال وحتى زمن السطوة السورية وبعدها الإيرانية عن حياده بين المحاور العربية والدولية، وانتقل في السياسة جراء السطوتين السورية والإيرانية إلى محور هاتين الدولتين وصار رأس الحربة منذ حرب سنة 2006 ويخوض منذ أكثر من سنة حرب "الإسناد والمشاغلة" ما أدى إلى المستنقع الذي أوقع نفسه فيه.

تشخيص المرض اللبناني إستُنفد، والحال التي وصلنا إليها تتجاوز ما قدّمه مؤتمر باريس من مساعدات إنسانية ومن إلتزام بعودة السلام إلى لبنان، من دون أفق سياسي وعملاني غير الدعوة لانتشار الجيش والقوات الدولية في الجنوب. وبالتوازي يبدو أنّ الولايات المتحدة تتجاوز مقررات مؤتمر باريس إلى تطبيق كامل للقرار الأممي 1701 ومن ضمنه القرار 1559 القاضي بحصر السلاح في لبنان بقوة الشرعية وحدها، وهو الحد الأدنى المقبول من إسرائيل التي تخلق وقائع ميدانية جديدة تحاول فرضها ومنها إستمرار وجودها على الأرض اللبنانية، ما سوف يعيدنا إلى المربع الأول أي تجديد أو تمديد لدور المقاومة بهدف تحرير الأرض المقتطعة مضافة إلى مزارع شبعا وقصتها المعروفة.

التوغل الإيراني لا يعرف أكثر من إعادة الحياة إلى "حزب الله" مهما بلغت الكلفة على اللبنانيين

محصلة المشهد هي عجز إسرائيل من جهة عن تحقيق نصر عسكري كامل وعدم استعداد "حزب الله" للاستسلام لشروطها وسط تخبط وفوضى بعد شلل القيادة السياسية والعسكرية إلى حد كبير، سيما أنّ الحزب يفتقر إلى شخصية قادرة على خلافة السيد حسن نصرالله. من جهة أخرى، تبرز عقدة إضافية هي عدم وضوح مشروعية من يتحدث باسم الحزب، وباتت إيران هي من يدير زمام الأمور مباشرة والمحاور-المفاوض عن الطائفة الشيعية.

كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة المغلقة؟ والأحوال باتت بحاجة إلى معالجة الأوضاع الإنسانية والإقتصادية والإجتماعية "من خارج العلبة"، سيما أنّ الولايات المتحدة، الجهة الوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل، منشغلة بالإنتخابات الرئاسية وبعدها في عملية تشكيل الإدارة الجديدة، أيًا كان الرئيس المقبل، التي تمتد إلى أشهر يتعذر على لبنان تحمل أوزار إستمرار النزف البشري والتدمير الممنهج وتداعيات النزوح الكارثية.

يصعب تصور مخارج لهذا الوضع بخاصة أنّ لبنان الرسمي مشلول والقيادات السياسية عاجزة تمامًا ومن غير المجدي أن يُطلب منها مبادرات، لا بل تحتاج إلى من ينتشلها ويعيد الناس إلى بيوتها أولًا وإعادة بناء مفاصل الدولة المفككة والوقوف في وجه قضم إسرائيلي للأراضي قد يتحول إلى إحتلال دائم وتوغل إيراني لا يعرف أكثر من إعادة الحياة إلى "حزب الله" مهما بلغت الكلفة على اللبنانيين.

ربط مستقبل لبنان بأشقائه هو مصدر الحماية المتبقي لتلافي إستيلاد الحروب ومآسيها

هل من سبيل لتدخل خارجي غير التدخل العربي الذي لا تستطيع إسرائيل مقاومته ولا حتى معارضته ومرحب به أميركيًا وأوروبيًا؟ التدخل العربي المطلوب من دول الإعتدال اليوم قبل الغد ليس تدخلًا عسكريًا بل هجمة ديبلوماسية تقيم في لبنان، ثلاثية الأبعاد سياسية-أمنية وإعمارية، لبناء ما تهدم ومساعدات إنسانية فورية لمعالجة مأساة النزوح. هجمة الإعتدال العربي تملأ الفراغ بعد ما تعرض له "حزب الله" والبيئة الحاضنة، وتعيد لبنان إلى وضعه الطبيعي بين أشقائه. مثل هذه المبادرة وحدها القادرة على إعادة لبنان إلى التكامل مع العالم العربي أو بصريح العبارة مع ما تبقى من دول عربية سليمة معافاة تتطلع إلى المستقبل والسلام والإزدهار. من دون ذلك سيبقى لبنان أسير شعارات وعناوين فضفاضة ومشاريع إنتحارية قصيرة النظر.

العودة إلى الحاضنة العربية وعودة العرب إلى لبنان، لا تعنيان الإنتقال من محور لآخر بل هما في صلب الخروج من المحاور، لأنّ دول الخليج العربي ومصر والمغرب والأردن لا تشكل محورًا ولا تنشئ ميليشيات مسلحة ولا تتدخل عسكريًا في شؤون دول أخرى. ربط مستقبل لبنان بأشقائه هو مصدر الحماية المتبقي لتلافي إستيلاد الحروب ومآسيها. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن