كان مشهد وكلمات حفل افتتاح المؤتمر الذي جمع إلى جانب صاحبة الفكرة (الوزيرة المثقّفة لولوة الخاطِر) شخصيات فكرية مرموقة من الشرق والغرب (غسان سلامة؛ اللبناني، ويوجين روغان؛ الأميركي، ومامادو تانغارا؛ الغامبي، وإكمال الدين إحسان أوغلو؛ التركي) حضاريًا بامتياز، مقارنةً بما شاهدناه ونشاهده يوميًّا على الجانب الآخر، بدايةً بمشاهد وخطابات حفل تنصيب الرئيس الأميركي في يناير/كانون الثاني الماضي، أو مشهد إهدائه "الصليب المقدّس"، بعدها بأسابيع وتشبيهه بالإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم، مع إشارة دالّة إلى القسطنطينية (إسطنبول اليوم). فضلًا عن التغريدات اللاديبلوماسية "الاستعلائية" لرفيقه الملياردير إيلون ماسك التي يؤلّب فيها الحكومات الأوروبية على مواطنيها، والمُقيمين فيها من "الأغيار". بالمناسبة، لرئيس الوزراء الإسرائيلي تصريحات مشابهة، وإنْ لم تلقَ الاهتمام ذاته يحذّر فيها الحكومات الأوروبية من "الإرهابيين"، الذين هُم بالضرورة (حسب تعريفه، أو حسبما يريد أن يروِّج له) عرب أو مسلمون.
على الرَّغم من أنّ هناك من يحاول استدعاءها اليوم، فلا جديد في التعليق على أطروحة صمويل هنتنغتون الشهيرة "التي قُتلت بحثًا" عن صدام الحضارات، والتي راجعها بنفسه (نسبيًّا) قبل وفاته، ولكن اللحظة الترامبية (اليمينية/الشوفينية) التي يعيشها عالمنا اليوم، تُذكّرنا قطعًا بما طرحه الرّجل في مقاله المطوّل الشهير الذي كانت دوريّة "Foreign Affairs" قد نشرته له عام 1993 فأثار جدلًا أكاديميًا وسياسيًا كبيرًا.
الخطاب الإقصائي لليمين المُتطرّف وجد في ديماغوجية الترامبية ما ربما لم يكن يحلم به
لا أحسب أنّ مثل دونالد ترامب قرأ هنتنغتون، أو غيره، فمثله لا يقرأ، ولكنه (ربّما من دون أن يعرفه) يحاول جاهدًا بأقواله وأفعاله (وأهدافه الانتهازية المريضة) أن يستدعيَ نظريته، ليؤكّد بأقواله وسلوكيّاته ما ذهبنا إليه يوم ناقشنا أطروحة هنتنغتون، ذاهبين إلى أنّ صِدام الحضارات أو الثقافات؛ الذي يفترضه المفكّر الأميركي البارز "حتميًا"، ليس أصيلًا، وليس ناتجًا بالضرورة عمّا بين هذه الثقافات/الحضارات من اختلافٍ أو تناقضٍ، بل هو مصنوع، وسياسي "وميكيافيلي" بامتياز، يستثمر فيه الساسة ما هو "اختلاف طبيعي" بين هذا وذاك، ليؤلِّبوا هذا على ذاك، خدمةً لأطماعهم، أو ضمانًا للهيمنة والسيطرة. رأينا هذا في القراءة الصحيحة للتاريخ "السياسي" للحروب الصليبية، وعرفناه في سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" التي استخدمتها القوى الاستعمارية، وها نحن نراه متجسّدًا في المحاولة الإسرائيلية المفضوحة للاستثمار في المسألة الدرزية، أو الكردية في سوريا والعراق. بل وجرّبناه حتّى مع أنظمتنا المستبدّة التي لم تتورّع في هذا البلد أو ذاك عن استخدام التنوّعات الطائفية أو الإثنية بيْن مواطنيها إحكامًا للهيْمنة والسيطرة. هي الميكيافيلية إذن، لا أكثر.
أيًّا كان أمر الخلاف الأكاديمي حول مقولات هنتنغتون، فليس بوسعنا غضّ الطرْف عمّا نشهده اليوم جليًا، من هيمنةٍ للخطاب الإقصائي لليمين المُتطرّف، الذي وجد في ديماغوجية الترامبية ما ربّما لم يكن يحلم به. ممّا يستدعي من العقلاء في هذا العالم أن يبذلوا كلّ جهد فكريّ ممكن لصياغة "خطابٍ مختلف"، يحترم الاختلاف، الذي هو من سُنَنِ الله في خلقِه، ويحترم حقّ "الآخر" في أن يكون مختلفًا، من دون أن ينقص هذا الاختلاف من قدره أو من حقوقه، من دون تمييزٍ أو إجحاف. كما لا يمكننا أن نغفل عن حقيقة أنّ الحدود السياسية، لم تعُد في عصر الهجرات الكبرى الذي نعيشه تمثّل حدودًا ثقافيةً بحال (راجعوا الإحصاءات عن عدد المسلمين أو غيرهم من ذوي الأصول المشرقية أو الجنوبية الذين باتوا يعيشون في أوروبا على سبيل المثال).
التناقض ليس بين الشرق والغرب بل بين الإقصائيين العنصريين الشوفينيين وبين الذين يبحثون عن عالم أكثر عدلًا
قبل حوالى العقد من الزمان، وبعد أن اندلعت فجأةً أزمة "الرسوم الدنماركية"، بعد أربعة أشهر كاملة من نشرها، كتبتُ في "وجهات نظر" عدد مارس/آذار 2006 عن "صِدام الجهالات" الذي كشفت عنه الأزمة، بغضّ النظر عن الذين، هنا وهناك حاولوا الاستفادة منها. الأمر الذي يجعل من فهم الآخر "المختلف" فرض عيْن على هذا وذاك، بعيدًا عن الصور النّمطية "استشراقيةً" كانت أو "استغرابية"، استعلائيةً كانت أو استعدائية.
وأظنّ أن ما بدأ في الدوحة قبل أيام يجب أن يمضي في هذا الاتجاه. وأنّ ما قالته لولوة الخاطِر في كلمتها الافتتاحية "بعربيةٍ جزلةٍ سليمةٍ" عن "توازن الحضارات" يجعلني أتفاءل بأنّ هناك من يُدرك مفصلية اللحظة التي نعيشها، وأهمّية أن يكون للفكر والمثقّفين دور في رسم الطريق الصحيح الذي يجب أن نمضي فيه؛ شرقًا وغربًا بلا صِدام يعمل عليه، أو يستفيد منه أولئك الإقصائيون "الميكيافيليون".
بالمناسبة، وتحريرًا للمصطلحات لا أكثر، علينا أن ندرك أنّنا لا نتحدث هنا عن "شرقٍ وغربٍ"، بالتعريف الجغرافي. فمودي في الهند (الشرقية) لا يختلف عن نتنياهو (على ضفاف المتوسط)، كما لا يختلف أي منهما عن دونالد ترامب (غرب الأطلنطي).
الاستعلاء ثقافة متجذرة فيما يخطّطه لمنطقتنا أولئك الذين يعتقدون بأنهم "شعب الله المختار"
التناقض ليس بين الشرق والغرب الجغرافييْن، ولا بين "المؤمنين" حقًا بهذه الديانة أو تلك، بل بين أولئك الإقصائيين العنصريين الشوفينيين "اليوجينيين"، وبين خَافِتِي الصوت الذين يبحثون عن عالمٍ أكثر عدلًا (للجميع).
بالمناسبة أيضًا، الاستعلاء كثقافةٍ لا يعرفها من آمن بـ"كلّكم لآدم، وآدم من تراب"، ليس حالةً فكريةً فحسب، بل لعلّها متجذرة فيما يخطّطه لنا، أو بالأحرى لمنطقتنا أولئك الذين يعتقدون بأنهم "شعب الله المختار"، فيحاولون رسم خرائط جديدة "لشرق أوسطٍ جديد"، يكون لهم فيه السطوة والهيْمنة، حيث تستبيح أذرعتهم الطويلة كلّ ركن فيه، كما قال نصًّا بنيامين نتنياهو، متباهيًا: "يدُنا طويلة، يمكنها أن تصل إلى أي ركن نشاء"، مؤكّدًا قوْلته الاستعلائية ليس فقط بتحدّي كلّ القرارات الدولية (آخرها قرار مجلس الأمن الرقم 2735 الذي قضى بوقفٍ فوريّ للحرب على غزّة)، أو بعدم تورّعه عن قصف دمشق (العاصمة)، بل بتصريحٍ متغطرسٍ لوزير حربه بأنّه لن يسمح للجيش "السوري" بالتّواجد على أرضٍ "سوريةٍ" يعتبرها هو، بكلّ استعلاء حديقته الخلفية اللازمة لأمنه.
(خاص "عروبة 22")