كنتُ قد تساءلت في دراسة تعود لسنة ١٩٩١ "لماذا لم يؤثر في الخطاب الإسلامي العربي فكر محمد إقبال وأثر فيه مفكر باكستاني آخر هو أبو الأعلى المودودي الذي كان وراء الخطاب الراديكالي المتشدد في الأدبيات الإسلامية؟".
السؤال لا يزال مطروحًا بعد مرور عقود تسعة على كتاب إقبال الذي تُرجم إلى العربية منذ سنة ١٩٥٥ دون أن يكون له كبير تأثير في الخطاب الاحتجاجي الإسلامي الذي أنساق وراء مفاهيم الحاكمية والتفسير السياسي للدين حسب عبارة مولانا وحيد الدين خان.
لا نلمس في الفكر العربي اهتمامًا حقيقيًا بهذا الفيلسوف الكبير الذي قدّم مقاربة نظرية وعملية جديدة للإسلام
كانت ميزة فكر إقبال، كما يبيّن الفيلسوف السنغالي بشير ديان الذي كتب أحد أهم الكتب المعاصرة عن اقبال (ترجمته للعربية)، هو أنه نظر للإسلام من منطلق حركي ديناميكي أساسه الوفاء للرسالة وترجمة روحها في الواقع المعاصر من منظور الاجتهاد والتجديد.
لقد قيل الكثير عن صوفية إقبال التي ينضح بها شعره، كما أنها حاضرة بقوة في كتاباته، بيد أنّ الروحانية التي يدعو إليها هي روحانية إنسانية تقوم على تأكيد معاني الذاتية الفاعلة، بحيث يكون الفناء الذي يتكلم عنه الصوفي ليس انمحاءً وغيابًا بل هو أقصى درجات الترقي الإنساني نحو الكمال والفاعلية والإبداع.
لقد خصص إقبال أعمالًا هامة حول الميتافيزيقا الإسلامية الوسيطة باستعراض مذاهب المتكلمين والفلاسفة، لكنه قرأ هذا التراث العقدي النظري بعيون نتشوية، معطيًا أهمية قصوى للديمومة الحيوية والاختلاف الخلاق وهي المعاني التي يرى أنها العمق الروحي الحقيقي للإسلام.
باستثناء المفكر التونسي هشام جعيط الذي اهتم مبكرًا بمحمد إقبال وبكتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام" والفيلسوف المصري حين حنفي الذي خصص كتابًا ضخمًا لفكر وشعر إقبال، لا نلمس في الفكر العربي اهتمامًا حقيقيًا بهذا الفيلسوف الكبير الذي قدّم مقاربة نظرية وعملية جديدة للإسلام عقيدة وشريعة.
لقد ظلت التأويلية الفلسفية التي اعتمدها غائبة عن الفكر الإسلامي الذي هيمنت عليه الأيديولوجيات الراديكالية، كما أنّ الأفكار الجريئة التي طرحها بخصوص الفقه والتشريع لم تجد في الغالب آذانًا صاغية لدى علماء الدين وفقهاء الشريعة.
ولعل مصدر هذا الإهمال هو ضعف حضور الروحانية الصوفية في الخطاب الإسلامي المعاصر، حيث ينظر إليها عادة إما كبدعة يجب محاربتها ونبذها، أو كتجلٍ "لعقل مستقيل" و"غنوصية عرفانية" دخيلة على التقليد الإسلامي كما كان يرى الفيلسوف المغربي الراحل محمد عابد الجابري.
التجديد كما يفهمه إقبال عمل مزدوج يكمن في إعادة بناء الروحانية الإسلامية من أجل إضفائها على الحداثة الإنسانية
إنّ هذه النظرة للروحانية الصوفية تصدر عن خلفيات عقلانية كلاسيكية وضعية تختصر العقل في التجريد الوصفي والصياغة الأداتية، وهو تصور تم تجاوزه في الفكر الفلسفي المعاصر الذي استوعب في صلب العقلانية المواقف الوجودية والحيوية المعيشة وصيغ التعبير الاستعاري والرمزي، كما تبلور في النظريات التأويلية واللغوية المعاصرة.
كان إقبال واسع الاطلاع على الفكر الفلسفي في عصره، ولذا استطاع أن يقدّم عدة تأويلية جديدة للتقليد الإسلامي من منظور كوني إنساني، يختلف كليًا عن خطاب الانكفاء على الخصوصية الضيقة الذي هو نقيض الدعوة الكونية لرسالة الإسلام الأصلية.
التجديد كما يفهمه إقبال أبعد من أهداف الإصلاح والتنوير التي اعتمدها سراة الفكر الاجتهادي والتحديثي في الإسلام المعاصر، إنه عمل مزدوج يكمن في إعادة بناء الروحانية الإسلامية من أجل إضفاء الروحانية على الحداثة الإنسانية، ومن هنا المشروع الفلسفي الكوني لإقبال في أبعاده العالمية الرحبة.
(خاص "عروبة 22")