والحال أنّ المسار التاريخي المتميّز الذي رسمته مثلًا الحداثة الغربية، منحها عتبة تاريخية عمّا سبقها، وقد تحقّق هذا التجاوز، لأنّ الحداثيين توجهوا نحو أفق التاريخ، بحيث وضعوا أولوية للمستقبل تغدو على قناعة أنّ فكرة التقدم هي استقراءٌ للمستقبل انطلاقًا من أفعالهم الخاصة، فصار المستقبل هو من يقود المسار التاريخي.
تأسيسًا على ما سبق، فإنّ تأسيس هوية تاريخية عربية، أو قُل إمكانية تتجاوز ما قد نسميه الانهزام الذاتي والحضاري الذي نعاينه اليوم، والذي تغديه هفوات ومغالطات النزاعات الطائفية الدينية والسياسية، يرتبط أساسًا بالوعي التاريخي، أو كيفية تشييد مسار تاريخي انطلاقًا من مكونات التاريخ نفسه.
إذ من خلال مفهوم التاريخ يتكشف لنا حسب عبد الله العروي "مفهوم أعم هو الأس والسقف، المركز والأفق"، أي هناك مسار يرسم لسيرورة تاريخية معينة، بغض النظر عن طبيعة ونمط هذه السبرورة. فما هي مميّزات التجربة الراهنة العربية؟
في كل معركة يُخضع الكيان الصهيوني مكوّناته للمساءلة وبناء توجهات مستقبلية لتجاوز المطبات السابقة والقادمة
لا ضير من التذكير بأنّ تجربة الراهن العربي تستدمج بشكل ملتبس الماضي والحاضر، ممّا يجعلنا أمام أفق مستقبلي غامض ومجهول، ويخضع لمبدأ الطارئ واللامتوقع، المرتبط بالسياق السياسي والاقتصادي الدولي، ففي هذه الشروط التي تخص راهن التجربة العربية فقد الماضي، بمعنى ما، القدرة على تنوير الحاضر والمستقبل، لهذا وجب أن يحمل المستقبل لواء تنوير الحاضر.
فهل نملك أفقا مستقبليًا قادرًا على تجاوز الراهن؟
يسير الوضع العربي وفق مساريين زمنيين: الزمن العالمي وحيثيات تأثيره بشكل عام، والزمن المشكّل للهوية التاريخية العربية، ممّا يجعلنا نسير بوضعيتين مختلفتين، نعمل من خلالهما على استعارة العدة المفهومية المواكبة للزمن في راهنيته التقدمية التي يقودها العالم الغربي، وفي الآن نفسه نحاول أن نهجن هذه الاستعارة لتتعايش والهوية العربية، في بُعدها التاريخي والديني والإيديولوجي، مما يرسم ضبابية مستقبلية يمكن أن تعمل على استدامة التجربة الراهنة.
قد يكون مفيدًا هنا استحضار الصراع العربي الإسرائيلي كنموذج توضيحي، فإسرائيل تعي بشكل مهيكل وممنهج أفقها المستقبلي بشكل جيّد، ففي كل معركة يُخضع الكيان الصهيوني مكوّناته للمساءلة، وبناء توجهات مستقبلية لتجاوز المطبات السابقة والقادمة، فيتم بناء المأمول وِفق أغلب الاحتمالات الممكنة لتجاوز قدر الإمكان الطارئ واللامتوقع، بناءً على تجارب حاضر الصراع، مما يفتح أفق التهيؤ المسبق لحيثيات الصراع اللاحق.
إنّ حتمية الصراع هي من يحكم مستقبل الكيان الصهيوني، لهذا تنطلق إسرائيل دومًا من منطق ربح عتبة مستقبلية تضمن لها التفوق المسبق، وقد يكون نافعًا هنا ادراج ما يقوم به الكيان من تصفيات متتالية لقيادات الصف الأول لـ"حزب الله" و"حماس"، فما هو إلّا استباق مستقبلي لشل وتعطيل حركة المقاومة مستقبلًا، فحتى إن تمكنت المقاومة من تجاوز الأمر وإعادة هيكلة بيتها الداخلي، إلّا أنّها ستظل بحكم الواقع التقدمي على جميع المستويات متخلّفة عن إسرائيل.
هناك شبه غياب لعملية الاستثمار في المشاريع العلمية والتعليمية التي ستقود المستقبل في الدول العربية
لهذا يمكن القول:
- النزوع نحو التطبيع والسلم المحكوم بوضعية أزمة أو ضعف لا يُعتد عليه، ولا يعدو أن يكون ظرفية ضرورية تخدم الكيان والتحالف الغربي ولا تخدم الوطن العربي، لأنّها تمثل عتبة مهمة لتحقيق أفق انتظاري توسعي بالمنطقة.
- هناك شبه غياب لعملية الاستثمار في المشاريع العلمية والطبية والتعليمية، التي ستقود المستقبل في جل الدول العربية، بما فيها الدول التي تستثمر بصورة سخية في رسم صورة حداثية تضاهي فيها العالم الغربي، مما يرسم أفقًا استهلاكيًا يديم راهن التجربة العربية.
- إنّ ضبابية التوجهات العربية الحالية لا تنذر بتنسيق عربي قادر على تهيؤ أفق مستقبلي واضح ومحدّد المعالم بشكل عملي وواقعي، لأنّ أغلب التوجهات يفرضها الوضع السياسي والاقتصادي العالمي، ممّا يفقد هذه الدولة أو تلك إمكانية توجيه دفة المستقبل نحو مأمول يخدم مصالحها النهضوية.
- يتم بالغالب تعطيل الاستثمار في استشراف المستقبل بدواعي تعقيدات الوضع العربي الراهن، وضرورة إيجاد أرضية ثابتة للحاضر العربي، قبل بناء الأفق الانتظاري المواكب لهذا الراهن، فيتم تهميش وتأجيل الأفق المستقبلي، مما يخلق دوامة زمنية تلتهم الحاضر دون إمكانية تسطير أفق مستقبلي قادر على جر هذا الحاضر نحو مآلات انتظارية واعدة.
- وأخيرًا، إنّ الاستغراق في النزعات الطائفية والتوجهات الإيديولوجية السياسية والدينية المختلفة هو أقرب إلى ملهاة تعيق مجمل التوجهات النهضوية للمنطقة العربية، كما تُغذّي النعرات الإقليمية التي تخدم بقاء التفوق الغربي والإسرائيلي في المنطقة.
(خاص "عروبة 22")