ثقافة

عن الحاجة إلى فهم "المدينة العربية" اليوم!

كثيرةٌ هي تجارب التفكير في "المدينة الفاضلة"، وكذلك في المدينة الكونية التي فيها كل شيء والتي لا يكون شيءٌ من دونها. والمُلْكَ شعورٌ فطريٌّ في الإنسان يستدعي التفكُّرَ الدائم بشروط إقامته، لأن تنظيمَ إجراء الرغبة في التحكُّم بالكون لا ينجِزُه الفعلٌ العفويُّ ولا الفعلُ العبثيُّ في بناء الأوطان لمواطنيها.

عن الحاجة إلى فهم

ما ينبغي أن يستجِدَّ في أذهاننا هو مغادرةُ الانفعال إلى التروِّي لتعقُّل الفكرة الملائمة للفعل الضروري للعيش اليوم، وهو التمدُّن. لقد آن الأوان لتحيين التقاء المدنيَّة بالمعيش اليومي على مستوى ربط المصالح بين الناس والمحل، وبين الأقوال والأفعال في الأعمال والصنائع والعلوم.

إنَّ فلسفةً للعيش الراهن لا بدَّ من صناعتها كي نضمن استقرارَ الإنسان وبقاءه حيًّا منتجًا مبدعًا في هذا العالم.

يحضرنا في هذا التأمُّل مشهديَّات من نصوص فارابيَّة في فلسفة المدينة بناها على مفهوم "التعقل" والقائم بدوره على "جودة الروية" في استنباط الأحكام والأشياء الأصلح التي تحاكي الخير المطلق أو السعادة القصوى. فالفضيلة في ذاتها ليست ضبطًا للنفس في عدم ارتكاب الشر، بل هي ممارسة العقل القادر على بناء الرأي بالطبع.

تكوين الفرد الثقافي يجب أن تترسَّخ فيه عادات الفضيلة وتحصيل الخير العام نفيًّا للشر من النفاذ إلى المجتمع

لذلك إنّ المدينة لا تبنيها ردات الفعل والمنافع البسيطة والمكاسب الدنيا، بل هي مشهديَّة العقل الذي يسكنُ فيها في الواقع. إذ إنّ الإنسان المعاصر لا يمكنه أن يعيش ليأكل ويشرب فحسب، فتأمين ضروريات العيش لا يجعلُ الإنسانَ الفردَ اليوم مشاركًا في الوجود الكوني الفاعل.

التأثيرَ في الحوادث التي تجري في العالم يستدعي بلوغ المدينة التي نسكُنها مرتبةً تفوق مرتبة تأمين الضروري للعيش إلى مرتبة الاشتراك في صنع السعادة الكونية لبني البشر. إنَّ التفكير في السياسة المحلِّيَّة للمدينة هو الذي يجعلها تتقدَّم وتنمو لتصبح سائرةً على درب السعادة، فالاجتماع الراهن يوجِبُ العمل على محاربة الفساد. لا بل إن تكوين الفرد الثقافي يجب أن تترسَّخ فيه عادات الفضيلة وتحصيل الخير العام، وذلك نفيًّا للشر من النفاذ إلى المجتمع. فلا شيءَ اليوم يستدعي منا إقامة الحروب العبثية مع الآخر أو الانفعال الجنوني بما يمكن أن تتعرض له مجتمعاتنا من شرورٍ قد يكون مصدرها الآخر.

إنَّ تحصينَ الذات هو الفعل الوحيد الممكن لبناء الشخصية العربية الراهنة، التي ستتمثَّل في كل فردٍ يعيش داخل المدينة، فلا يسمح بدمارِها أو نقصان خيراتها وفساد أنظمتها، بل يجب أن نسعى لتكثيف تعقُّلنا للواقع الذي نعيشه، لعلنا نجوِّدُ أساليب تعاملنا مع الحقائق وننتج علومًا تتوافق مع طبيعتنا في الوجود الفاعل إنسانيًّا.

لا يمكن للإنسانِ أن يغفلَ عن بناء ذاتِه الحرة المجدِّدة في بناء هذا العالم. والسعي لاستعادة الصورة الناصعة للمدينة ليست أمرًا صعبًا إذا ما توفّرت الإرادةُ القائمة على استيعاب شروط النهوض بحسب العلم الموجود. ذلك أنّ أيّ تنظيرٍ فكريٍّ لإحداث انقلابٍ في الواقع الراهن لا يمكن أن يتمَّ من دون الفهم الشامل لكل مكوناته الفاعلة. ولا يمكن إنجاز تغييرٍ في طريقة تفكير الناس الموجودين في المجتمع إلا إذا ارتبطت مصالحهم في هذا المجتمع بأفكارٍ توفِّرُ لهم السعادة المطلقة.

قد يكون الإنسانُ في غفلةٍ عن المنهج، وقد يتغافلُ قصدًا، ويكون الواقع في الحالين فاسدًا، لذا إنّ الانشغالَ في فهمِ مجتمعاتنا هو الذي سيؤمن لنا فرصةَ إعادة إعمار مدينتنا العربية الراهنة على أسُسٍ تسمح لها بالبقاء والانتعاش والاستمرار إلى آمادٍ طويلة يسودها الاستقرار. فما يستدعي تفكيرنا في "المدينة" هو انهمامنا الذي لا يفارقنا في سؤالٍ لا نبرحه، وهو كيفَ نصبح مبدعين روَّادًا في هذا العالم؟

نعم، إن الاهتمام بالإبداع هو الذي يحدِّدُ لحظةَ الابتكار للأشياء التي نحتاجها في عيشنا اليوم. لا يمكن لإنسانٍ غافلٍ عن يومِه أن يُحدثَ فرقًا في سيرورة البشرية نحو السعادة. لذا قد نجد الأشرار يحتلون كل الأماكن ويكسبون كل المنافع. والنضال في سبيل الخير هو عمل إنساني مشترك، لا تقوم به أمةٌ دون أخرى، لذا على الإنسان أن يبني المحل الذي هو فيه كي يساعدَ أخيه الإنسان في تكثيرِ الخير.

التأمُّل والتفكّر في مستقبل المدينة هدفٌ نضاليٌّ يحفِّزُ الطاقات المحليَّة لتقليص تفشي الفساد في المجتمع

لا يمكن التفكير في سياسة الأماكن من باب السطو على الجغرافيا أو الحصول على طاعة السكان بالقوة والغطرسة، كما أنّ فرض الهيمنة على المدن بالسلاح والحكم بأفكارٍ متخلّفةٍ لحاضرٍ شديد التقدّم هو الذي يستجلِبُ الشرَّ إلى المدينة. وإذا كانت قوى الشرِّ لها قدرة شاملة على احتلال المدن وإسقاطها في منظومات حكمٍ شمولية، فإنّ قوى الخير يجب أن تمارسَ الذكاءَ الحَدَثِيَّ في استيعاب الفاعلين المقتدرين، وذلك بممارسة التعقُّلِ الفارابي، كلٌّ من موضِعِه وكلٌّ على قدر طاقته في التأثير. فالمهم هو أن لا يتنازل الإنسان عن التأمُّل والتفكّر في مستقبل المدينة، ذلك أنّ وضع هذه الغاية بأنها هدفٌ نضاليٌّ مشروع هو الذي يحفِّزُ الطاقات المحليَّة على صناعة سياسات حُسْنِ التدبُّر لتقليص تفشي الفساد في المجتمع.

لا تنبعثُ المدينة وتعمرُ من جديد إلا بوعي النقص الحاصل في المفاهيم التي تتناولها الخطابات والبيانات السياسية، أو التي تحتويها العلوم التطبيقية، أو التي تنظِّرُ لها العلوم الإنسانية. إن وعي الحاجة إلى تجديد كل تصوّراتنا عن الحقيقة هو الضمانة في إعادة الحاجة لبناء مدينتنا لتصبحَ حاضرةً كما عهدتها الأمم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن