تقدير موقف

التكتل الاقتصادي العربي: رُهاب السيادة ونزوعات الهيمنة

لطالما راودت فكرة التكتل داخل بنية وحدوية، النُخب والشعوب العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهي الفترة ذاتها التي شهدت سعيًا مخالفًا لدى عدد من القوميات الأوروبية بُغية تعزيز حدود الدولة الوطنية ورفض الانصهار في أي شكل وحدوي أوروبي، وهو السعي الذي يُعد أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحربين العالميتين، اللتين خلفتا دمارًا غير مسبوقٍ أفضى بمعظم الدول الأوروبية إلى تبنى مفاهيم جديدة، أفسحت المجال للعمل الجماعي الأوروبي ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي، وذلك عبر إقامة مجموعة من التكتلات الاقتصادية، انتهى بها الأمر إلى الانصهار في اتحاد أوروبي، وتبني عملة موحّدة وسياسات اقتصادية متجانسة، الأمر الذي مكّنها من تجاوز خيبات الماضي وانكساراته وإقامة بنيانٍ حفظ للقارة العجوز موطئ قدم بين كبار العالم.

التكتل الاقتصادي العربي: رُهاب السيادة ونزوعات الهيمنة

لقد استفادت أوروبا من نكساتها ونكباتها، وشيّدت على أنقاض الماضي صرحًا اقتصاديًا وسياسيًا أسهم بشكل فعال في تذويب الخلافات والنزاعات بين مختلف مكوّناته، وهو ما لم يستطع العرب بلوغه على الرغم من تعدد نكباتهم واستمرار نكساتهم، ورغم كونهم سبّاقين لوضع تصوّر حقيقي لتكتل عربي مستقل عن خلافة إسطنبول وعن هيمنة الغرب.

فابتداءً بفكرة الجامعة الإسلامية ودينارها المنسي، ومرورًا بتجارب الوحدة بين مصر واليمن وسوريا، وأيضًا بين ليبيا والمغرب وغيرها، ووصولًا إلى تجارب التكتلات الاقتصادية والسياسية الإقليمية كجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي، لم يستفد العرب من دروس التاريخ ولا أيقظهم من سباتهم تعاقب الانكسارات واستفحال التشرذم والتشظي ولا أقلقتهم هيمنة الأجنبي على مقدراتهم البشرية والاقتصادية ولا استفزهم تملكه لقرارهم؛ وهو ما يطرح عدّة تساؤلات: هل العرب غائبون أم مغيّبون؟ هل هم واعون بمصائرهم المشتركة ونقاط قوّتهم ومكامن ضعفهم؟.

الدول الكبرى لن ترضى عن إقامة تكتل اقتصادي حقيقي بالمنطقة العربية لأنّه يتعارض مع سياسات الإضعاف والإنهاك

لا أعتقد أنّ النخب العربية، سياسية كانت أو اقتصادية، يغيب عنها ما يُمكن للتكتل الاقتصادي أن يجلبه من منافع ومصالح كبرى للمنطقة وشعوبها، وهو اعتقادٌ نابعٌ من كون الخطاب السياسي الرسمي لمعظم الدول العربية ما لبث منذ منتصف القرن الماضي يروّج لفكرة التكتل ويدعو لها، بل وينخرط في الدفاع عن مؤسساتها ويسارع للمصادقة على معاهداتها ومواثيقها، وهو أمرٌ يثير الاستغراب، لأنّ الهوة بين الخطاب والفعل شاسعة وكبيرة، والإرادة واضحة والسعي منعدم، وهو أمرٌ يثير بدوره تساؤلات أخرى: لماذا تتبنّى معظم الدول العربية ما يُشبه "السكيزوفرينا السياسية" كأداة للعمل؟ ما الباعث وراء ذلك، إن لم نكن نؤمن بمشروع ما فما علينا إلّا رفضه والابتعاد عنه، وهو أمرٌ سبق وأن شاهدناه حين قرّرت المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم تكن هناك مراوغة ولا مداهنة، كانت فكرة ثم استفتاء ثم أصبح قرارًا بالانسحاب، وهو ما نعيش خلافه في الوطن العربي، فكل الدول العربية، رسميًا على الأقل، تقول إنها تؤمن بمشروع التكتل وتحرص بشكل معلن على البقاء ضمن تكتلات ميتة، دون أن تمتد إرادتها لما هو أبعد من ذلك.

إنّ هذا الواقع المؤسف، مرده في اعتقادي إلى تكرار التجارب الوحدوية الفاشلة التي رسخت اعتقادًا عامًا أنه لا جدوى من التكتل في هذه المنطقة، غير أنّه اعتقاد غير معلن، رسميًا على الأقل، وهذا الاعتقاد هو نتاجٌ لتعاقب التجارب الفاشلة بسبب نزوعات الهيمنة لدى بعض الدول العربية، التي حاولت تارة الهيمنة من خلال مشاريع الوحدة والتكتل أو من خلال السيطرة العسكرية وتفكيك المجالات الترابية المجاورة لها؛ هذه النزوعات المستمرة منذ خمسينيات القرن الماضي إلى حدود الساعة، عزّزت انعدام الثقة البينية بين مختلف الدول العربية وفاقمت رهاب السيادة لدى بعضها ودفع عددًا منها إلى الارتماء في أحضان الدول الكبرى، التي لم ترضّ ولن ترضى عن إقامة تكتل اقتصادي حقيقي بالمنطقة العربية، لأنّه أمرٌ يتعارض مع سياسات الإضعاف والإنهاك التي تنتهجها هذه القوى إزاء المنطقة التي لا ينبغي أن يكون قويًّا فيها سوى الكيان الصهيوني.

إقامة بنى الربط الاقتصادي أمرٌ سيكون يسيرًا إن نفضنا عنا مركّبات النقص والعُقد السياسية والأيديولوجية

إلى جانب السعي إلى الارتماء في أحضان القوى الكبرى، آثرت دول أخرى التوجه نحو تكتلات اقتصادية أجنبية، الاتحاد الأوروبي ومنظمة "البريكس" وغيرها، منظمات جعلت العرب ينتظرون طويلًا على بواباتها، لتقرّر فيما بعد مصيرهم بالرفض أو القبول، وهو قبولٌ إن تم فسيكون بمثابة ولوج إلى الهامش، فلن يكون للدول العربية داخل هذه المنظمات دورٌ حقيقيٌ ولا قدرةٌ على توجيه القرارات، وهو ما يفرغ هذه التوجهات من أي منطق أو معنى أو فائدة سياسية أو اقتصادية.

لقد آن الأوان لتجاوز منطق النزاع والخلاف، والتعافي من رهاب السيادة ونزوعات الهيمنة، والشروع في ضخ دماء جديدة في عروق التكتلات القائمة، ففي اعتقادي لسنا بحاجة في الوقت الحاضر إلى تكتلات جديدة، يكفي أن نعيد النظر فيما لدينا وننكب على تطويره وتحديثه، ونمده بسُبل الحياة والاستمرار، عبر تفعيل المؤسسات وإقامة بنى الربط الاقتصادي، وهو أمرٌ سيكون يسيرًا إن تخلّصنا من عُقد الماضي ونفضنا عنا مركّبات النقص والعُقد السياسية والأيديولوجية. ونعتقد أنّ الأمل ما زال قائمًا.. على أمل ألّا يكون هذا النداء الأخير.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن